المناورة الإيرانية .. إجبار العالم على كبح ترامب

العراق 2019/06/21
...

ترجمة : انيس الصفار 
دأبت ادارة ترامب على تصوير تحركات إيران الأخيرة، بما فيها التهديد باستئناف تخزين اليورانيوم واطئ التخصيب الذي يعد انتهاكاً للاتفاقية النووية، بأنها برهان يؤكد أن إيران دولة مارقة ثابتة على مروقها، مصممة على اكتساب السلاح النووي، وبالتالي لا سبيل لاحتوائها إلا من خلال تهديدها باستخدام القوة العسكرية.
في حقيقة الامر أن إيران كانت في كثير من الاحيان تسلك سلوكاً استفزازياً في المنطقة، ولكن بعض الخبراء في الشأن الايراني وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، ممن لا ينتمون الى أي من الحزبين، يرون أن الحالة الراهنة مختلفة عما سبق. 
يقول هؤلاء ان الإيرانيين، كما يبدو، ينتهجون ستراتيجية استفزازية ولكنها معيّرة ومحسوبة بدقّة لموازنة ما يراه قادتهم تهديداً أميركياً لوجود إيران، إذ تطبق العقوبات الاقتصادية الخانقة على الاقتصاد وتقطع واردات النفط الحيوية، بالاضافة الى الحفاظ على الاتفاقية النووية.
حين تلجأ إيران الى هذا النهج فإنها ترتد عائدة الى تكتيكاتها القديمة التي الحقت بها صفة “الدولة المارقة”، وهي تكتيكات تشمل التصعيد العسكري بأساليب غير متناظرة، مثل تهديد شحنات النفط في المنطقة (رغم نفي إيران اتهام أميركا لها بأنها من هاجم ناقلات النفط في الاسبوع الماضي) وإسقاط الطائرة المسيرة الاميركية يوم الخميس الماضي (تحت ظروف لا تزال مثار جدل) والابتزاز النووي.
تفعل إيران هذا، كما يقول المحللون، لأن مثل هذه التكتيكات جزء لا يتجزأ من قاعدة القوة الايرانية، ولأن الولايات المتحدة اغلقت جميع منافذ التجاوب.
تقول “دينا اسفندياري” وهي خبيرة في أمن منطقة الشرق الاوسط من جامعة هارفارد: “توجه إيران ضرباتها يميناً وشمالاً كوسيلة لإيصال رسالة الى باقي دول العالم تقول .. هل رأيتم! لقد حافظنا على سلوك منضبط نسبياً طيلة العام منذ انسحاب ترامب من الصفقة
النووية.
ولكننا الان لم نعد نستطيع الصبر على ذلك.”
تقول اسفندياري ان طهران قد استقرت على “ستراتيجية ذات شعبتين، فهم من ناحية يظهرون أنهم قادرون ايضاً على تسليط الضغوط والتسبب بالألم، ومن ناحية أخرى يقولون أنهم راغبون في اجراء محادثات.
وبما أن إيران لا تقوى على تحدي قوة أميركا بمفردها فهي تأمل أن تتمكن من دفع الدول الأوروبية والاسيوية الى التحرك للجم الولايات المتحدة.
نتيجة ذلك، كما يقول الخبراء، هي ستراتيجية إيرانية متعقلة ولكنها تنطوي على مخاطرة ترفع احتمالات انهيار الاتفاقية النووية أو حتى الدخول في حرب مباشرة على أمل اجبار العالم على التدخل لدرء هذين الامرين.
خلق شعور بالضرورة الضاغطة 
تهديد إيران برفع مخزونها من اليورانيوم واطئ التخصيب يصلح مثالاً معبراً عن مجمل ستراتيجيتها الظاهرية، وكذلك عن المأزق الصعب الذي يواجهه 
البلد.
في العام 2015 وافقت إيران، كجزء من الاتفاق النووي آنذاك، على إبقاء مخزوناتها من يورانيوم الطاقة، وهو اليورانيوم المخصب الى حد معين لا يتعداه هو المطلوب للاستخدام في محطات الطاقة، ضمن حدود 300 كيلوغرام أو دون ذلك. 
لقاء ذلك، ولقاء سائر القيود التي فرضت عليها، تجني إيران خفضاً للعقوبات الاقتصادية التي ارهقت اقتصادها، بالاضافة الى مكسب ضمني آخر هو خفض خطر الصدام مع الولايات المتحدة، وهذا من الناحية النظرية يجعل برنامج التسلح النووي أقل جاذبية بالنسبة لإيران.
ثم جاءت ادارة ترامب فسحبت المكاسب والمحفزات وأعادت فرض العقوبات وسلطت الضغط على دول أخرى لجعلها تنفض يدها من الاتفاق النووي.
بعد ذلك راحت تصعد الضغط العسكري على إيران، ومن ذلك ارسالها 1000 جندي إضافي الى المنطقة مؤخراً.
كذلك ضيقت الادارة الاميركية المجالات أمام إيران للتخلص من اليورانيوم الفائض لديها والمخصب على مستوى محطات الطاقة.
ففي شهر أيار الماضي ألغت الادارة الإذن الممنوح لإيران الذي يسمح لها ببيع اليورانيوم الزائد عن حاجتها الى جهات خارجية، وهو ما كانت تفعله وفق بنود الاتفاقية النووية.
ورغم أن إيران كانت تتخلص من هذا اليورانيوم بإعادة معالجته فإن الالغاء كان المغزى منه اعطاء الانطباع بأن إيران تحاول انتهاك الاتفاقية.
مع تصاعد تكاليف المكوث في الاتفاقية النووية لم يتبق لإيران سوى أن تتحمل التزاماتها وقيودها لقاء مكاسب متضائلة، بالاضافة الى الضغوط الاقتصادية والعسكرية الطاغية التي تفرضها الولايات المتحدة.
في بادئ الامر كان باستطاعة طهران التكيف مع كل هذه الاعباء والتكاليف متعللة بأمل ظاهري هو أن يتمكن الدبلوماسيون الاوروبيون التواقون للسلام، وكذلك الاقتصادات الاسيوية المتعطشة للنفط، من التدخل وتغيير الموقف.
بيد أن حسابات إيران تغيرت على ما يبدو في الاسابيع الاخيرة، كما تقول “إيلي جيرنمايا” وهي خبيرة في الشأن الايراني من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
تقول جيرنمايا ان السلوك الاستفزازي الاخير يهدف كما يبدو الى ازاحة تلك الاعباء والقائها على كاهل الحكومات الاوروبية والاسيوية. 
تمضي جيرنمايا مستطردة: “الغاية من خلق شعور بالضرورة الضاغطة لدى الاوروبيين، وكذلك الصينيين والروس، هي ارغام تلك الحكومات على التحرك لكبح جماح الولايات المتحدة بالنيابة عن إيران.”
هذا هو التهديد الذي يلوح به الايرانيون على سبيل المثال بوجه حركة ناقلات النفط في الخليج (سواء كانت إيران هي المتسببة بتلك الهجمات أم غيرها) وهو تهديد سيضر أكثر ما يضر بالاقتصادات الاسيوية والاوروبية المعتمدة على تلك الشحنات.
هي أيضاً تحذيرات لحلفاء أميركا في الشرق الأوسط.
تقول جيرنمايا: “إنها رسالة مباشرة للسعوديين والاماراتيين مفادها أن إيران إذا ما تعرضت للضغط وضاقت عليها سبل ايصال حصتها من النفط الى الاسواق، فإن منتجي النفط الكبار الاخرين سوف يشعرون بآثار ذلك الضغط هم ايضاً.”
تمضي جيرنمايا: “لعلهم يأملون من الاماراتيين والسعوديين أن يضغطوا على الادارة الاميركية لجعلها تجنح الى ستراتيجية أكثر هدوءاً.”
الستراتيجية الايرانية المشار اليها تأتي منسجمة أيضاً مع تهديد إيران بتوسيع مخزونها من اليورانيوم المخصب بمستوى انتاج الطاقة، وهو تهديد يسبغ المصداقية على حجة إيران القائلة انها لا ينبغي أن يتوقع منها التقيد بجانبها من الصفقة دون الحصول على المقابل الموعود.
يبدو أن الموقف الايراني محسوب بدقة بحيث يخلق ازمة لها من الثقل ما يكفي لتسليط ضغط على القوى الاوروبية والاسيوية كي تتدخل للحد من اندفاع الولايات المتحدة، ولكن لها من خفة الوزن ايضاً ما يسهل نزع فتيلها بلا عناء، على حد تعبير جيرنمايا.
هذه الستراتيجية من شأنها أبقاء الايرانيين على التزامهم بما يعتبره خبراء نزع الاسلحة اهم شروط الصفقة، مثل عمليات تفتيش المنشآت النووية وحظر اليورانيوم المخصب بمستوى التسلح. 
بدلاً من تكديس المادة النووية سراً قامت طهران بالاعلان عن الأمر جهاراً للعالم كله قبل أن تنفذ بأسابيع.
يقول الخبراء ان الموقف قابل للانقلاب الى الضد بكل سهولة.
في تغريدة على “تويتر” وصف “جيرار آرو”، الذي كان الى وقت قريب سفير فرنسا المخضرم لدى واشنطن، التهديد الايراني بأنه “رد فعل محدود ومحسوب بحيث لا يستعدي الاوروبيين، وفي الوقت نفسه لا يعطي الذريعة لتدخل عسكري”، يمضي آرو مضيفاً: “كانت إيران مجبرة سياسياً، سواء عاجلاً أو آجلاً، على ابداء ردة فعل ازاء العقوبات الاميركية.”
لكن رغم هذا كله، وحتى لو بقيت إيران تدعي أن هدفها هو الابقاء على القيود الدولية المفروضة عليها ضمن البرنامج الذي تهدد بتوسيعه، فإن التحرك الايراني ينطوي على تهديد خفي بإمكانية العودة الى أيام الابتزاز النووي واللعب على حافة الخطر، مثلما كان الحال قبل الاتفاقية.
 
من الذي ستضعف اعصابه أولاً؟
يجادل مؤيدو نهج ترامب بأن المواجهة مع ايران أمر لا مناص منه لأن السلوك المدمر الذي ينتهجه هذا البلد في منطقة الشرق الاوسط الاوسع يجعل من الحكمة ان يحاول ترامب ارغام طهران على
الرضوخ.
بيد أن منتقدي ترامب يقولون ان تقويض الاتفاقية النووية لن ينجم عنه سوى تعاظم الدوافع لدى إيران لفرض قوتها خارج حدودها الى مديات أبعد.
في وقت سابق من هذا الشهر حذر “بريت مكغورك”، الذي كان الى وقت قريب المبعوث الرئاسي لإدارة ترامب في قوات التحالف الذي يحارب “داعش”، من ان الستراتيجية الاميركية تكاد تدفع إيران الى الرد بتصعيد مقابل.
كتب يقول ان العقوبات المستمرة بالتصاعد، الى جانب الضغوط الاميركية الاخرى على إيران، لن تترك لإيران مغنماً يعتد به للدخول في مفاوضات إذا ما استمر تطبيقها حتى تحقق النتيجة المرتقبة، في اشارة الى تغيير النظام في إيران.
دعا ترامب القادة الايرانيين الى المحادثات، ورغم قوله انه لا يسعى لتغيير النظام فإن بعض كبار المسؤولين في ادارته اعلنوا ذلك، ويبقى من غير الواضح من سيكون صاحب الكلمة الفصل.
وجود هذا الاحتمال يعطي الزعماء الايرانيين الاسباب كلها للقتال دفاعاً عن انفسهم بدلاً من التراجع وانتظار
 الدمار. 
وحتى لو خلص الايرانيون الى أن من ينادون بتغيير النظام إنما يتظاهرون ويخادعون فإن بقاء العقوبات المفروضة على البلد تنطوي على مخاطر عدة.
يختصر الخبراء الموقف بالقول ان الولايات المتحدة، من خلال ستراتيجيتها واستخدامها القوة المجردة، قد اغلقت عملياً أي منفذ للسلام امام إيران إذا ما رغبت في الاستجابة.
على خلاف الصين لا تستطيع إيران مقابلة الضغط الاقتصادي الاميركي بفرض عقوبات وتعرفات جمركية من جانبها على الولايات المتحدة.
كذلك فإن إيران لا يمكن أن تأمل في الوقوف نداً لأميركا دبلوماسياً لأنها لا تملك مقعداً في مجلس الامن ولا تلك الشبكة العالمية الواسعة من الحلفاء التي تملكها أميركا.
لقد وصفت بعض الدول واشنطن بأنها الطرف الذي يتصرف بعدم مسؤولية في هذه الازمة، ولكن طهران اكتشفت أن الركون الى اقناع العالم بإلقاء اللوم على الولايات المتحدة غير كاف.
الحكومات الاوروبية والاسيوية لديها منازعاتها الخاصة مع ادارة ترامب، ناهيك عن معاناتها في شؤون اخرى تخصها مباشرة.
يقول الخبراء ان إيران تأمل من خلال رفع درجة الخطر في ازمة الخليج أن تتمكن من فرض الموقف على الاجندة 
العالمية.
المخاطرة أشبه بمخاطرة تلك اللعبة التي يلعبها لاعبان يقود كل منهما سيارته مسرعاً صوب الاخر وجهاً لوجه منتظراً منه أن يحيد عن طريقه في آخر لحظة.
الفرق هنا هو أن هذا اللاعب لا يسعى لجعل اللاعب الاخر يحيد، بل لجعل المتفرجين يشعرون بأن خطر الاصطدام الوشيك سوف يشملهم هم ايضاً وعندئذ يضطرون الى التدخل لمنع الاصطدام.
تقول اسفندياري: “من وجهة نظر المسؤولين الايرانيين انهم قد حاولوا التعقل والدعوة الى الحوار والابقاء على الصفقة، لقد قالوها المرة تلو المرة .. ماذا ستفعلون لو كنتم مكانناً؟” 
 
* ماكس فيشر/عن صحيفة نيويورك تايمز