بغداد : نوارة محمد
على الرغم من التغيير الكبير في المسار الثقافي في عراق ما بعد 2003 والتنوع الذي يواجهه المشهد برمته، لكنه لا يزال محصورا بأداء استعراضي تنقصه المعايير الدقيقة للثقافة، الأمر الذي عّده مهتمون مؤشرا خطيرا لتفاعلات تسير نحو ازمة لا نهاية لها. ويعتقد فريق أخر أن النشاط الثقافي العراقي اليوم يُعد حكراً على نوعية من المثقفين النمطيين، الذين لا ينتمون للواقع الثقافي الحديث بصلة، وهذا ما يجعل الانشطة الثقافية غير فاعلة وبعيدة عن التجدد.
ويرى الناقد والشاعر أحمد ياسين جار لله أن الوسط الثقافي على مستوى المؤسسات والأفراد لا يعيش حالا مثاليا في ما يخص الفاعلية كونه جزءا من حال البلد عموما بما يعانيه من إشكاليات مختلفة تسلبه سمة الاستقرار وتربك أداء المشاريع الثقافية، ومن أسباب تلك الحال السلبية على المستوى الثقافي رخاوة الصلات بين الأجيال الثقافية، لأن كلا منها غالباً ما يحاول احتكار البطولة في أي فعل ثقافي أو مبادرة لتنشيط الثقافة، ولا يقبل بالدور المساند أو الثانوي ففكرة الصراع من أجل الأحقية والنفوذ التي سنتها اللعبة السياسية في العراق باتت نسقا مضمرا يتحكم خلف الكواليس حتى بالثقافة، فضلا عن استمرارية الصراع في الوسط الثقافي بين نمطين الأول يرى ضرورة عزل الثقافة وأدواتها (الفن والأدب) عن المجتمع للحفاظ عليها بوصفها فعلا جماليا ترفيا بحتا، والثاني يرى ضرورة النزول إلى الواقع والمجتمع وجعل الثقافة وأدواتها عنصرا عضويا في الحياة، يؤدي دورا تنويريا ونهضويا.
ويعود جار لله للقول: وقياسا إلى ما ذكرناه وما نتج عنه من إشكاليات فإن المعالجات على مستوى المؤسسات ذات القدرة على القرار والتغيير نمطية ولا تزال دون مستوى الزلازل التي تعيشها الطبقات الثقافية منذ عقود، وهي تهتز وتتأثر مع كل حدث يشهده البلد، ولكن لا علاقة للنمطية بمسألة العمر الثقافي للفرد أو المجاميع الثقافية، لأن النمطية يمكن أن تكون سمة للأجيال القديمة والجديدة بسبب عامل الوراثة الثقافية المهيمن في العراق، ومن ثم فإن معالجة هذه الفجوة بين العقل الثقافي النمطي وبين العقل الثقافي التنويري المتجدد، تتم بالمزج الثقافي المتدرج بين جيل الخبرة من التنويريين المتمردين على التوريث، وجيل الشباب من المتحررين فكريا وإداريا من الوراثة الثقافية التي غالبا ما تكون نتاج ابوة سياسية ما تغريهم بالانتماء إليها، تشبه ما يحدث أحيانا في السياسة من تغير في الوجوه من القديمة إلى الجديدة، لكن المنتمية جميعا إلى أب سياسي واحد يتحكم بها من بعيد على مستوى الفعل الثقافي وطريقة إدارته.
ويذكر أيضا: إن تأسيس المنتديات أو الملتقيات إن لم يكن بالاعتماد على التنويري الخبير والشاب الحر، فإن مثل هذه المبادرات لن تكون سوى مبادرات براقة لغسيل ما ورثناه ثقافيا ونمطيا، وتجميله بمسميات جديدة فقط لا تقدم حلولا ولا تنتج فاعلية يمكنها أن تردم الفجوة بين الأجيال الثقافية من جهة وبين هذه الأجيال جميعا والواقع، كما أن التغيير يكون بإعادة الاعتبار للثقافة بمظاهرها الرئيسة (الفنون والآداب) إعادة حقيقية إلى مربع التأسيس الثقافي الأول للذات المثقفة، ونعني بهِ مربع التربية والتعليم، الذي لا يزال ينظر إلى مواد الأدب والفنون (الرسم والنشيد) بوصفها مواد ترفيه ثانوية غير عضوية، ولا فاعلة في المجتمع. وذلك المربع الأول هو المنتدى المؤثر الفاعل في التأسيس لثقافة تواصلية بين الأجيال والواقع.
من جهته يؤكد الناقد والدكتور علي حداد أن "كل فعالية ثقافية رصينة، هي فرصة طيبة للإعلان عن المتحف الثقافي العراقي، الذي يشكل واجهة غاية في الإدلال على مستوى الوعي وطبائع الإنجاز، ومساحة التمثل المخبرة عن الخصوصيات الوطنية، وقيم التمايز الحضاري والتاريخي والمجتمعي وتشكلاتها التي نريد للتلقي الداخلي والخارجي أن يعاينها ويعرفنا من خلالها".
ويتابع: نعم لا خلاف على هذه النقطة، هناك وجوه معينة تحتكر المشهد الثقافي العراقي، وهو أمر يؤثر سلباً في واجهة الثقافة العراقية، وأظن أن من ينشد هذه المساعي عليه أن يضع بعين الاعتبار أهمية المهرجانات الثقافية والفنية، شرط توافرها على جملة مقومات في الإعداد الجيد، والتنوع العمري والثقافي، ولابد من وضوح الأهداف والمقاصد من إقامتها، وتشكيل لجان من ذوي الخبرة والتخصص، ودعوة من يعد حضورهم مكسباً حقيقياً يرتقي بتلك الفعاليات، بعد أن يتم تجاوز النزعة الشللية والأخوانيات ضيقة الأفق، التي يتبناها كثير من الأشخاص والجهات المهيمنة على مقاليد تلك النشاطات التي نعايشها اليوم. وإذ يتحقق ذلك كله فإن ما يستوجب الوقوف عنده لاحقاً الإجابة بتجرد وموضوعية ندعو إليها من يتولون شؤون تلك الفعاليات أن يواجهوا بها أنفسهم ووعيهم عن المخرجات المعلنة والمكاسب الملموسة التي تحققت من خلالها، سواء في إيصال منجزنا الثقافي والفني إلى الآخر، أو في تلقي متحققه المماثل وتأمله ومجاراته بندية من الوعي والمدرك المعرفي والانجاز الحصيف الواثق بما لديه.