ياسين طه حافظ
سأتحدث لناس الهالة، إن السائد يضيّعني، وهي حال من كان طارئاً فاستقرّ. غطت البداية الغيوم. وما أراه الآن في الزحام مشوشاً وهي ليست كذلك.. هي غير ما تشابه. وهي تصفو فيها ال "أنت" ويبتهج باللمسة ال "أنا". فاستقرّ وابتدئ بالتفكر. تذوق إنسانيّة رائقة، ضع مصدة للكدر. هي حين تراك حزيناً، تمسك بيدك وتبتسم "يكفينا موت الوردة.. ليست الروح أقل. أما أنتم فلا تخلطوا الأسماء. هي ليست عباءة ولا سحابة. ليست جارية تقتعد العتبة. هي تلك التي أردنا نبيع فاشفقت على بؤسنا، قالت "تلك ليست أنا" وصارت منذ الدهر الأول، الأحبَّ والأصعب ويحدث حضورُها ارتباك مهزومين.
أدخل الظلمة كي أكتشف. يا ضوءنا أعنّي. ما استطعت مقاومة ودخلت. وبعد انتهاء البذار لم يكن التفكير بالحصاد. بعده، بدها بدا الشغف بالقطاف.. وتكاثر الزارعون بعده، بدأ ظل النشوة ونداؤها الناريّ. الارتعاش غيَّرَ كلَّ شيء. والارتعاش يستدعي ارتعاشاً، وهو ارتواء وهو عطش، وهو وصول لذيذٌ قاس! منتهى اللذة ومنتهى القسوة، ثم ذلك الفراغ.
أشرنا للأمتعة لتعود. وهو ارتحال ساخن جديد. وسفر على غير هدى في البرّيّة. الحياة شاسعة وليس سواها. ناعمٌ ملمسها غير قابل لمبادلته بأيِّ شيء. صار ندائي لسرِّها عناقاً وضربات قلب.
من لا يعرف المرأة لا يعرف حقيقتها ولا يعرف حقيقة نفسه ولن تقربه الموسيقى ويظل عمره لا معنى ولا نسَغ. هو خطل منك، انزلاق بصرٍ، أن تجيءَ بالأنظمة وتحدّد الممرّ. صوتٌ يقول: دعها تنحَّ، معاً نحن في عالمٍ لنا، لا لأحد. وكل يرى يسمع يفكّر يتحرك مسحوراً، لكي يجد، لكي يلامس السرّ الذي يصنعه حالا أخرى، لكي يمر بتجربة البرق": يلج شقاً في شجرة وينتمي لها.
ظل يريدها، ظمآن يدور، تلك التي سحبت الرعشةُ من وجهها الضوءَ كلَّه، تلك التي حضورها صنع في الكون حدثاً. أتحدث عن المرأة، عن التجربة التي خلّفت وراءها أسراب نجوم.
نجمة انطفأت واختفت في بحيرة راكدة. استيقظت على صيحة الاختفاء فزِع العالمُ. ظلت الموسيقى تجوب ولا أحد. انتبهت لنفسي أني جائع دائماً لأرى.. ما أحس قريب مني يوشك يمسّني. ارتياح جميل أقتربُ ويقترب. هو ذلك. ذلك هو ما انتمي له ما أردت أن أفنى فيه فما استطعت. حين اتّقد المصباح الأزرق أردت أن أبعد عنه، وأيضاً ما استطعت!، أَلِفْتُ وأدمن ما هو خفي في وجودي الواضح. وما ألمس غير الذي أراه. أين أنا؟ الافتنان كبير، سلاماً أيها الفاتن، ومزيداً من الضوء، مثيرٌ ما مضى.
تلك التجربة، ذلك اللقاء، تلك الشهقة، صرت بعدها أفكر اصنع اصطاد وصرتُ أريد ما وراء أرى. صيحةٌ: المرأة ليست أنثى الحقل والحضيرة. هذه جوهرها يشع ليل نهار، في ضوئها ترى وتتصور وتمتلك. رفعتْ ستارة من حرير عن بعض الكون. التجربة هائلة وصناعة الحياة كانت في الظلال الباردة. ودفء الغابات، لتتفتح الازهار ولتطير أفراخ العنادل ويبدأ بالمزاح الولد.. ما عادت السهوب فارغة. ما عادت خرائب تصفر فيها الريح.. بعد الحصاد تغيّر الكوكب. هي صعقة صغيرة أضاءت ظلمات العالم وجعلت لكل شيء معنى. كيف وصلت الى هذه الضفة من تلك النقطة البعيدة في ضباب الأرض، من اللحظة التي اعتزل بها اثنان وحيدان في الكون كله واقتدحا معاً أول نار. النار ظلت ابداً مشتعلة.. غشيتني اللغة وهي تُعلّمني، وهي تغطيني مثل نبيّ محموم، فلم يتضح شيء وغشيت الأشياء كلها، لحظة اللذة خسف أرضي، اهتزاز كامل لك وللأرض والأشياء، ولا يدري أين يمضي البرق. أنا ما أزال مكاني غشيتني عتمة اللغة، غير ما يظن الجميع تكشف وتُعين. اللغة تضيّع العاشقَ في الاقاليم، تزوره بين ساعة وساعة لتطعمه وتسقيه، باللذة تديم عذابه.. وصول لذيذٌ قاس.. مجيد هو الفجر الأول، هائلة كانت التجربة، وعلى الصخور كتابات.
الجمال تقرؤه الآلهة كم تقرأ منه أنت؟ ما عادت المعاني تقف عند حد. ما عاد الشيء شيئاً وما عدت أنا. ولكي نتمكن من أن نظل نرى، صنعنا من أنفسنا آباءً واطلعت النخلات فسائل وامتلأت الحقول بالبذار وكانت نقطةً لبدء سلالة جديدة. الثلاثة تاهوا في كون الله، اللغة كل ما يملكون للغموض وللغم والخوف والفزع. المرأة تعرف هذه الثلاثة وهي التي تصد ما يجيء. لكن الصدى لا يكف، ظل الصدى: "سدى يكون النضج. وسدى كل فعل، لن تمسكوا بشيء ومن يظل أنا.." أنتم لا تعرفون الحدائق التي احترقت، سمعتم بها، لم تروها. موجزة كانت العبارة: "البحّار ينام في الممرّ، تلمع في رأسه لحظة اقتداح المتعة، لحظة انفلات الومضة وسقوط البذرة في ذروة الظمأ. احترقت غابة في مكان. والبحّار المبلول ينام في الممرّ.." من يصدق هذا، اتصال بالكون وتوقف الضياع: استيقظ فارغاً غادرته قواه، عيناه نصف تائهتين لا يدري ما يفعل. هل ستعود نأخذ بيده، هل تبقى الصلة الأولى أم يصدنا ما في العالم لنظلَّ في رهبة ما كان وما سيكون؟، هل صعقةُ وصولٍ ثانية أم هو السؤال الأبدي معقوفاً يظلُّ أمامنا وحيثما نكون؟.
لم يكنْ منْ يحمل لافتة، لم يكن من يتحدث باسم الإله، ولا هو الأثري يخرج نصف سطر مأكول، وذلك اضطربَ أول الكلام وأسند على الحافظ الطيني ذراعه المرتجفة.
هي تبتسم على أسى وصاحب التجربة يتلقى ما تهبه من نعم فرحانَ مضيئاً بنقائه. يحمل تفاحة سقطت وهو ينظر لها باهرةً تخطف فرحة باكتمال المعجزة. متوهّجة سعيدة غابت ودخل هو يهيئ الحقل للجراءة. ليس بعد من يذكر التفاصيل. حدثت القدْحة، شهقتْ، واستسلم: "يا أنا كُنْ مشرّداً والتقط ما تناثر من سلّتها في الطريق. الحوريَّة غابت بسرّ البحر. اخذت بعض نارك وابقت فيك بعض نارها. سيقتلك الظمأ في الأبديّة. مسافة بين "أين" و "سوف أصل" هي عمرك كله. وليس أجمل، ليس أنفع، ليس أشهى منها. اطمئن، لن تغيب طويلاً، ستعود لك، في طريقها قطعان الخنازير. لكن انتبه لنفسك: مع المرأة لا وجود للكبرياء.. والمرأة حين تراك حزيناً تنسى وجهها وتأتي لك بقرنفلة بيضاء. هي السيدة في الحبّ وهي السيدة في احتمال الأسى. حين تسمع العويل تحت الأرض، تُنصت وتبقى الحكمة ساكنة بانتظار أسفنا. لها لغة تخاطب فيها ما يبقى. فمن أنت لكي تنظِّم مسارات للضوء؟ لن تصونها أنت، هي التي تصون بذرة الحياة وهي حاملة السرّ. أنت لم تَرَ إلا ما تظن رأيت. تظل كلَّ المسافة رمزاً لقدوم المواسم، ويظل جمالها الوحيد الذي يقف بوجه المآسي. كفّ كلامك، مملٌّ قديمٌ صوتُ الرحى. سينفصل زماننا عن الماضي. سيكون هذا نهراً رائقاً نافعاً على مبعدة، وحينها ينتهي الجبروت.
اِسمع، اِسمع هذا القول. اِقرأه حرفاً حرفاً، ثمّة من رأى الصواب:
"فــي أيــة الظلمات أستــطيع أخبـّئ نفــسي
من عينيْ فينوس العظيمة، التي لا يمكن تجنبهما؟"
هو من عشرة قرون وأدرك، حتى فزِع، حتى ارتجف مما رأى في عيني فينوس" ضاع في عوالم لم يرها، صار يريد الانطفاء بها ذلك الذي شبَّ في قميصه اللهب!