سوسن الجزراوي
في تحولات عديدة من تواريخ نشأة الفن التشكيلي، وما بين عالم في الهندسة المعماريَّة، ومصاب باضطرابيَّة ثنائي القطب، وهاوٍ للتجريب، انطلقت شرارات الإبداع، لتعلن عن حضور نوع جديد مميز من أنواع الفنون المتخصص بالجمال أولا، والفكرة، وما تحمله من حكايات عديدة من المجتمع وأحلامه وأفراحه وأحزانه .
ومن خلال ظهور المدارس التشكيليّة، والبدايات الفعليّة لها، كانت اللوحة والمنحوتة، تعلن عن ولادة مرحلة جديدة في خارطة الإبداع الفني، وتجسيد صور الحياة بما فيها من أحداث تناولت قصص الحب والحرب والجمال والزمان والمكان، عبر ريشة هذا الرسام أو إزميل ذاك النحات .
ولم تكن هذه الصور الملموسة تحاكي رغبات صنّاعها حسب، بل كانت تجسد وقائع تركت بصماتها في المشهد الإنساني، وأثّرت في سرد أحداث الأزمنة المتغيرة، مستمدة ألوانها من الشمس تارة والليل تارة أخرى، من السلام والمحبة والثأر والرغبة والحلم والأمل، بل من كل نبضة أحسّها كل من كان حاضراً في مسرح الفن، رساماً أم نموذجاً، تحاكي تفاصيله خامة اللوحة أو حجر
التكوين .
تعود حكايات البداية إلى أزمنة اختلف حولها بعض المؤرخين، واتفق عليها البعض الآخر!، فمنهم من أشار الى "جورجيو فازاري" الذي اشتهر كواحدٍ من أهم الكتّاب الذين تناولوا سيرة الفنانين الايطاليين، على أنّه الرجل الذي كانت له البصمة الأولى في اختراع الفن، ومنهم من وضع "كلود مونييه"، رائد المدرسة الانطباعيّة، في مصاف أوائل الرساميين الذين جسّدوا الانطباعيَّة بشكلها الاكاديمي المتقن، في حين راح آخرون لتسمية "ليوانردو دافنشي"، كأحد وأهم فناني عصر النهضة، إذ كان رساماً ومهندساً ونحّاتاً في آنٍ واحد، حتى عدّه الكثير بأنّه أعظم عباقرة
التاريخ .
ولم تقف سرديَّة التشكيل اللوني وتفاصيل الجسد والشكل والطبيعة، عند تكوين لوحة ناطقة بجمالها وتمثال مبهر حسب، لكنّها توالت بسرد الأحداث بطريقة مبتكرة تراوحت بين الواقع الملموس والخيال الحسِّي، فكانت كل النماذج التشكيليَّة، قابلة للتفسير أحياناً بأكثر من فكرة، كما جاء في المدرسة السرياليَّة مثلا، أو كما نقلتها التجريديَّة في موقع آخر، في حين أصرت الواقعيَّة على إثبات حضورها بين مدارس الفكر والخيال، لتكون حكاية لا
لبس فيها ولا تفسير حولها .
ومع أهمية أن يكون العمل الفني "متشكّلاً" بطريقة احترافيَّة، تأتي الضرورة الجماليَّة لتشغل المقاعد الأماميَّة في ملعب الإبداع، فالتشكيل يُعنى بشكل أساس بالقيمة المتميزة المبهرة للمنظور التكويني للوحة، لأنه يأخذنا إلى حيث يتماهى الخيال وتتفتق الأحاسيس بروعة المشهد النهائي .
ويشكّل الجمال النسبة الأعلى للمنتج الفني الساحر، فهو الأكثر قدرة على استقطاب شغف المتلقي الى حيث يهوى، أو إلى مكامن إبداع الفنان نفسه الذي صارع مزاجيته وذائقته وخياله ليصنع أيقونة فنيّة تجذب المهتمين بهذا
الفن .
ولأنَّ الحديث عن الفن التشكيلي يرتبط بحلقات من التجسيد المنظور والملموس، لذا فمن المهم أن نقف أمام فخامة الأبعاد الثلاثيّة التي يحاكيها فن النحت، والذي يعرّفه "گوگل" بأنّه: فن تجسيدي يرتكز على إنشاء مجسمات ثلاثيّة الأبعاد لإنسان، حيوان، أو أشكال تجريديّة، باستخدام الجص أو الشمع، أو نقش الصخور أو الأخشاب، وهو أحد جوانب الإبداع الفني عرف منذ قديم العصور بنحو 4500 سنة قبل الميلاد، حيث كان الإنسان القديم يحفر في الصخر ما يمر به من أحداث منذ آلاف السنين وقبل أن تظهر القراءة والكتابة، وقد حاول ذلك الإنسان البدائي، تدوين تاريخه بطريقة مبسطة ليرينا كيف كان يعيش، وما هي طبيعة حياته، وذلك من خلال نقوش وصور بسيطة لحيوانات وأدوات صيد وحتى نسخ لأيدي بشر مرسومة على جدران كهوف توضح لنا الكثير عن حياة ذلك الإنسان .
لقد كان إنسان العصر الحجري مثله مثل إنسان العصر الحديث في حاجة للجمال أو المتعة البصريّة، وأراد أن يُزيّن مسكنه عبر النقش والرسم وتجسيد أمنياته، على جدران الكهوف بصورٍ تروي ما كان يحدث . من خلال ما أسلفناه، نستطيع أن نعرف، أنَّ الفن التشكيلي مرَّ عبر بوابات زمنيّة أثارت الكثير من الجدل حول دقّتها، ومكانية تنوعت ما بين الكهوف والجدران المغلقة والشوارع والمتاحف، وكلها خضعت بلا شك، لرغبات الإنسان ومعاناته وصراعاته وما مرَّ في حياته من أحداث عبّر عنها بما أحسّه وما أملاهُ عليه مزاجه وفطرته، تاركاً لنا مئات النماذج من اللوحات والتماثيل والمدارس والأسماء التي أسست لفن عظيم يُقال عنه الكثير، ويوصف بالعديد من الأوصاف الكبيرة، عميقة
المعنى .