د. نادية هناوي
أولى المنظرون الألمان السرد بضمير المخاطب اهتماما خاصا، ومنهم إيرين كاكانديس التي ذهبت الى أن ضمير المخاطب استراتيجية من استراتيجيات كتابة السيرة الذاتية ووظفت في كتابها(حديث الأدب الخيالي وحديث عن انفجار حدود السرد) 2001 مفهوم(التحدث المقارن comparative speaking) وتتبعته في قصائد هوميروس وفرجيل الملحمية وفي المسرحيات والمزامير والأدعية والرسائل والحوارات الفلسفية والكتيبات الإرشادية.
أما مونيكا فلودرنك فتعد الأكثر اهتماما في هذا المجال، فوقفت عند تنظيرات جينيت وستانزل، ورسمت خريطة سردية لعمل ضمير المخاطب من خلال تحليل بعض روايات الايطالي إيتالو كالفينو ورواية قصيرة للنمساوية الزه اشينغر نشرت عام 1949 بعنوان(قصة المرآة). ورأت أن وظيفة ضمير المخاطب ليست نحوية تتغير بتغير اللغات، وانما هي تقانة فنية فيها تتجلى امكانيات هذا الضمير في تبادل الادوار مع الضمائر الاخرى. وبحثت في دراستها(مقدمة: السرد بضمير المخاطب والقضايا ذات الصلة)1994 عن حل لمشكلتين رئيستين: الاولى وضع تعريف جامع مانع لضمير المخاطب والأخرى(ضرورة إيجاد نسبة ما بين النصوص “الحقيقية” بضمير المخاطب والنصوص الخيالية الأخرى التي تستخدم ضمير المخاطب بطريقة مثيرة للاهتمام)
وقبل أن تبدأ بالخوض في هاتين المسالتين وضعت أولا نصين مقتطعين من روايتين، فيهما “أنت” غير مرتبط بالمسرود له ويشير إلى بطل الرواية مثلما يشير إلى القارئ. فجملة مثل “سوف تتذكر نفس الصورة عندما تظهر لك، بعد سنوات، في المدرسة...” تفترض منظورًا متأخرًا عن تلك الأيام الدراسية، لكن الموقع الزمني والوعي المرتبط بهذا المنظور يظل غامضًا.. وسريا للغاية بإزاء فكرة التحليل الذاتي التأملي متعدد المستويات. وأشارت إلى قلة هذا النوع من الروايات بالقياس الى الروايات الموظفة لضمير المتكلم والغائب، تقول فلودرنك:(معظم الناس، عندما تخبرهم أنك تعمل على رواية بضمير المخاطب، يحدقون بك في ذهول: “كيف يمكن أن تكون القصة بضمير المخاطب؟” يسألونك ثم يواصلون على الفور تقديم ملاحظة، على سبيل التعليق المفيد،:” هل تقصد النصوص التي توظف المسرود باستعمال المونولوجات الدرامية أو الرواية الرسائلية؟. تهرع إلى المكتبة أو محل بيع الكتب للحصول على نسخة وتأخذها إلى السرير في تلك الليلة مع توقعات عالية بنص آخر بضمير المخاطب لإضافته إلى قائمة المراجع الخاصة بك، ولكن في اللحظة التي تقع فيها عيناك على النص، تتبخر آمالك وتنحسر حماستك).
وتتبعت فلودرنك توظيف هذا السرد في أدب القرن العشرين وأفلامه، وأشارت إلى أعمال إبداعية ستكون موضع التمثيل في دراستها أعلاه. ومنها رواية(التحول) لميشيل بوتور 1957 و(لو أن مسافرًا في ليلة شتاء) لإيتالو كالفينو 1979 و(أضواء ساطعة، مدينة كبيرة) لجاي ماكينيرني1984. وتذهب فلودرنك الى أن دراسة ظاهرة السرد بضمير المخاطب توصل إلى حقيقة مقاومة هذه الظاهرة لأي تعريف يراد له أن يكون واضحا او لا لبس فيه إلى حد ما؛ فثمة مجموعة واسعة من النصوص السردية ليس من السهل تصنيفها ضمن شكل واحد من أشكال السرد بضمير المخاطب، وهو عامل يزيد من حدة المأزق النظري ويعقد مسألة ايجاد تعريف مناسب، تصنف على وفقه النماذج السردية وفئاتها الأساسية.
ووقفت فلودرنك عند تنظيرات جيرالد برينس ومنها تعريفه لهذا السرد بانه سرد فيه المروي له narratee هو بطل القصة وعد رواية ميشيل بوتور (التحول) نموذجا لهذا النمط من السرد. ووجدت فيه تصورا لافتا للنظر ينطبق على ما استعمله الكتاب الامريكان مثل إرنست همنغواي، وويليام فولكنر وروبرت بن وارن وآخرين. ووقفت مطولا عند مقالة فرانسيس هوبكنز وليون بيركنز (وجهة نظر الشخص الثاني في السرد)1981 وتأسفت أن قاموس برنس لا يذكر هذه المقالة. وفيها يصف المؤلفان استعمال ضمير أنت بالمباشر فاعلا داخل السرد بعكس أنت في السرد بضمير الغائب لكونه خارج السرد بوصفه المرسل إليه ولكن علاقته بالقارئ الخارجي قد تختلف وهذا مصدر آخر للتعقيد في نسيج الحبكة. وما تلحظه فلودرنك هو اصرار هوبكنز وبيركنز بشكل خاص على الطابع التقريري لضمير المخاطب في السرد وخصوصية تصرفات بطل الرواية الذي هو “أنت”
ورأت فلودرنك أن جيرار جينيت في كتابه (إعادة خطاب الحكاية) 1983 لم يحدد وظيفة المسرود له في ما سماه السرد بضمير المخاطب وعده حالة نادرة لكنها بسيطة جدًا تأتي في السردين غيري القصة ومثلي القصة. ونقلت عنه قوله (لا نعرف شيئًا واضحًا عن المسرود له سوى أنه يشارك في الأحداث التي تُروى له: لا نعرف ما رأيه في هذه الأحداث.. ونحن لا ندرك ما له موقف من السارد وقصته) وتؤكد فلودرنك أنه منذ ذلك الحين ازداد العمل على التنظير للسرد بضمير المخاطب كما انتشرت النصوص ومن ذلك عمل هيلمت بونهايم، عالم السرد الرائد، الذي اكتشف قصصا عدة بضمير المخاطب في الأدب الكندي الحديث وصاغ مصطلحين مثيرين لوصف تعدد الوظائف في الرواية الكندية هما “الانزلاق المرجعي” للإشارة إلى القدرة المتأصلة في “أنت” على معالجة كل من الواقع والقارئ والمسرود له بالإضافة إلى الإشارة إلى بطل الرواية والمصطلح الاخر هو “العناية الضمنية”، ويعني التأثيرات العاطفية للسرد بضمير المخاطب كالتعاطف مع شخصياته أكثر من التعاطف مع شخصيات ضميري المتكلم والغياب.
ووقفت فلودرنك عند تعريف براين ريتشاردسون للسرد بضمير المخاطب (سرد يتحدد البطل فيه بضمير المخاطب فيكون هو المُبئر الوحيد، وهو بشكل عام يدخل المسرود له في العمل أيضًا) وانتقلت الى مارجولين التي وجدت في تعريف السرد بضمير المخاطب إشكالية، بسبب تعدد مستوياته ولأنه يتضمن مفاهيم عدة سواء من ناحية التناسب بين الضمير أنت والنص الثابت أو من ناحية الخصوصية في استعمال أنت كمسرود يتجاوز الفواصل التي فيها يكون المسرود له مركزيا في تسلسل الأحداث التي تتضمن ضمير المخاطب.