حنا آرنت: كان هذا هو القطار

ثقافة 2024/10/02
...

  ترجمة: نجاح الجبيلي

بمناسبة قرب صدور كتاب "ما تبقى: قصائد حنا آرنت المجموعة" ترجمة سامانثا روز هيل، مع جينيس جريل، والذي سيتم نشره في وقت لاحق من شهر ديسمبر- كانون الأول 2024، كتب سيريكانث ريدي محرر الشعر في مجلة "باريس ريفيو" مستعرضاً تجربة الفيلسوفة في كتابة الشعر:
 ما يجعل بعض الفلاسفة، من دون غيرهم، شعراء ظل لغزاً بالنسبة لي. لكنّني لم أفكر في حنا آرنت كواحدة منهم.
كانت آرنت ضد العاطفيّة ومعادية للرومانسيّة وتصر بثبات على محو المشاعر الجامحة من الحياة الاجتماعيّة، وقد يبدو تمتلك مزاجها غير غنائي، لكن مجلداً جديداً من شعرها يكشف أن مؤلفة أعمال واقعيذة مثل "أصول الشمولية" و"الظرف الإنساني" كانت تكتب شعراً حماسيّاً وحميميّاً في أوقات فراغها. لنأخذ مثلاً  قصيدة من دون عنوان من مخطوطات آرنت، والقصيدة موجودة الآن في أرشيف آرنت بمكتبة الكونغرس، ويعود تاريخها إلى سبتمبر- أيلول 1947، أي بعد ست سنوات من وصول الفيلسوفة إلى الولايات المتحدة. على الرغم من أنها استقرت في ذلك الوقت في الجانب الغربي العلوي من نيويورك، إلا أن آرنت تتأمل ما تركته وراءها في رحلة حياتها في هذه القصيدة الحزينة:
وكان هذا الوداع:
جاء العديد من الأصدقاء معنا
ومن لم يأتِ لم يعد صديقا.
يأتي إقفال القصيدة معززاً للمقطع الافتتاحي لها وبتأثير توبيخ واقعي عملي لأحمق عاطفي: الصداقة هي الصحبة؛ فمن لم يكن صاحباً لا يمكن اعتباره صديقاً. "هناك شيء قياسٍ في اعتماد الفيلسوفة على المقاطع الثلاثيّة في شكل هذه القصيدة". في مقدمتها لكتاب "ما تبقى: قصائد حنا آرنت المجموعة"، تؤرخ هيل كيف رافقها دفتر قصائد آرنت عبر سلسلة متتالية من الوداعات: عندما فرت من ألمانيا بعد إطلاق سراحها من سجن الجستابو في ساحة ألكسندربلاتز في ربيع عام 1933؛ وعندما تركت حياتها الثانية في باريس لتتوجه إلى معسكر الاعتقال في جورس بعد سبع سنوات؛ وعندما هربت سيراً على الأقدام وبالدراجة إلى لشبونة، حيث استقلت سفينة إس إس غويانا إلى جزيرة إليس في 22 مايو 1941. كتبت آرنت: "كان هذا هو القطار: يطوي الريف كأنّه يطير، ثم يتباطأ أثناء مروره عبر العديد من المدن".
من مستهلها الحزين إلى نهايتها المربكة، تعكس قصيدة آرنت المرور العاطفي للكثيرين الذين يغادرون أوطانهم ليقيموا في أرض أجنبيّة. يبدأ الأمر على شكل أغنية الصباح، أو أغنية فراق، وينتهي بلغز الوصول:
وهذا هو الوصول:
الخبز لم يعد يسمى خبزاً
والنبيذ يُغيِّرُ الحديث بلغة أجنبيّة.
بالنسبة للمتحدث الألماني الذي وصل حديثاً إلى أمريكا، لم يعد الخبز بمثابة الكلمة الألمانية "بروت Brot". إحدى المفارقات في الإزاحات التاريخيّة التي قامت بها آرنت تكمن في كيفيّة محو كلمتها الألمانية الأصلية التي تعني الخبز بكلمة "خبز Bread" في الترجمة الإنجليزية. هناك مفارقة أخرى يمكن العثور عليها في السطر الأخير من القصيدة، حيث تتطفل "لغة أجنبية" على ما يمكن قراءته لولا جملة: "والنبيذ يغيّرُ الحديث". الغرض الأساسي من النبيذ، في حفل عشاء، على سبيل المثال، هو تغيير الحديث. ولكن ما هو النبيذ بلغة أجنبية؟، حين يكون العديد من ضيوف العشاء، من المهاجرين الذين فروا من أوروبا في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، فإنَّ النبيذ يخدم غرضاً إضافياً؛ أي فرد وجد نفسه أكثر طلاقة في حفل عشاء في الخارج سوف يفهم كيف "يغيّرُ النبيذ الحديث بلغة أجنبيّة".
أنشأت آرنت منزلاً بعيداً عن الوطن لنفسها، وللآخرين، في نيويورك في 317 وست شارع 95، ولاحقاً في 370 ريفيرسايد درايف، حيث استقبلت أصدقاءها المغتربين مثل هيرمان بروخ، ولوتي كوهلر، وكورت فولف وبول تيليش، وهانز مورغنثاو.
تروي قصيدة آرنت إذن حكاية وداعها لأوروبا ووصولها إلى الولايات المتحدة في عشرات الأسطر الشعريّة. ولكنّها أيضاً عمل فني واعٍ بذاته يؤكد بهدوء مكانته الخاصة في التقاليد الشعريّة الألمانيّة، فالخبز والنبيذ يستحضران الأسرار الأدبيّة لقصيدة فريدريش هولدرلين الشهيرة "خبز ونبيذ" "يكتب هولدرلين: "الخبز هو ثمرة الأرض، ومع ذلك فهو مبارك بالنور أيضاً. ولذة النبيذ تأتي من إله الرعد". كان الشعر الألماني، بالنسبة لآرنت، حاضراً دائماً في القلب والعقل. قالت في مقابلة عام 1964 مع التلفزيون الوطني الألماني: "أحفظُ جزءاً كبيراً من الشعر الألماني عن ظهر قلب. القصائد غالباً ما تكون في خلفية ذهني بطريقة أو بأخرى". لقد كتبتْ قصائدها الأولى حين كانت مراهقة. وبعض هذه الجهود الأدبيّة المبكرة كانت موجهة إلى معلمها، وحبيبها، في جامعة ماربورغ، مارتن هايدجر. ظلت قصائد الحب المبكرة هذه سريَّة، حتى بعد وفاتها. وبقراءتها الآن، يمكننا أن نرى الارتباط الوثيق بين الشعر والفلسفة خلال هذه الفترة التكوينيّة من حياة آرنت.
ومع ذلك، ظلت قصائدها، على عكس فلسفتها، شأناً خاصاً بها حتى النهاية. لا نعرف ما إذا كانت قد عرضت قصائدها على أصدقائها المقربين مثل روبرت لويل، وراندال جاريل، ودبليو إتش أودن في نيويورك؛ وعلى حد علمنا، لم يقرأ شعرها سوى زوجها الثاني، الشاعر والفيلسوف هاينريش بلوخر. القصيدة الأخيرة التي يمكن العثور عليها في أرشيف مكتبة الكونغرس تحمل عنوان "يناير 1961، إيفانستون". وكان مؤلفتها على وشك مغادرة إقامتها في جامعة نورث وسترن. ربما يكون ما رأته حنا آرنت هناك بمثابة نهاية لشعرها.ا.