ماجد الملا
الفنان الكبير والملحن جعفر الخفاف حرص وعبر مسيرته اللحنية الطويلة أن يضع بصماته اللحنية والموسيقية المميزة، عبر استحداث طريقة التلحين الحسي عند تناوله للنص الغنائي، فهو عابر لمضامين التلحين الجاهز والسطحي وهو غير خاضع لاعتبارات الشكل، يضع المضمون عند أولوياته، فهو يجزئ النص إلى مفردات لحنية تعبيرية توصيفية، ولن تكون عملية دمج المفردة بجمل لحنية تختصر العامل الحسي للكلمة بدون الانتباه لطبيعتها وتفسيراتها الوجدانية، التي تتعدى طابع التأثير المباشر
للكلمة.
فإذا كان منهج الخفاف أن يفسر لنا قيمة كل مفردة ويعطيها لنا بقالب لحني لتصل إلى الحواس بالشكل، الذي اجبرته طبيعته اللحنية والموسيقية أن يتفاعل مع النص عبر حوار روحي وعاطفي تفرزه موهبته المتفردة.
وما أغنية "مرة ومرة"، إلا دليل على وجود هذا النمط اللحني للخفاف بالإضافة إلى مئات الألحان، لتكون شاهدا على انتهاج الخفاف هذا الشكل من
التلحين.
وعند حديثنا عن اغنية القرن مثلما يصفونها وعبر استفتاء جماهيري ونخبوي، لا بد أن نذكر بلبل الجنوب وصوته الساحر الفنان الكبير رياض احمد، الذي جعل الاغنية ملحمة أدائية بجمال صوته وأدائه، واخذت تنتشر كالنار في الهشيم وأصبحت اغنية القرن، بفضل المستوى التلحيني للخفاف والأداء المتميز لرياض احمد، والتي أحدثت طفرة بين النهج التقليدي للالحان وبين صياغة هكذا عمل، بحيث أوجدت فجوة كبيرة وفارقا زمنيا بين ما مطروح، وما طرح وما سيطرح، أنه عمل لا يتكرر، الا عند الخفاف نفسه فهو عودنا على سماع معجزات موسيقية بين الحين والآخر.
وهي ناتجة عن فكر متجدد وينبوع صافٍ من الإبداع والالهام والابتكار وهي الشجرة المثمرة الدائمة الخضرة.
أغنية "مره ومره" على الرغم من قلة تعددها المقامي، الا انها فاقت التنوع المقامي بالتنوع الحسي والوجداني، فهي تتكون من ثلاثة مقامات رئيسة، يبدأ بالنهاوند ويتقرب من الكرد وكوبليهاتها من
البيات.
وعندما يسألونني عن مقام هذه الاغنية، أقول إنها من مقام النهاوند، بفعل تجربتي وعلمي الموسيقي، لكني تفاجأت حين سمعت الاستاذ طالب القره غولي عبر برنامج لأصوات شابة كان يشرف عليه وهو يتكلم مع متسابق أراد أن يغني هذه الاغنية وقال إنها من مقام البيات، فأصابني الذهول والحيرة بين التشكيك بمقدرة طالب الموسيقية، وبين يقيني وثقتي بنفسي واستمر هذا الصراع والتشكيك، إلا أن التقيت ملحنها الاستاذ جعفر الخفاف بعد سنوات وسألته عن هذه الاشكالية، فقال لي إن طالب القره غولي هو الخيمة الموسيقية، ونحن جميعنا أركانها ما يقوله هو الصحيح، فهو يقصد غناء الكوبليه الذين تعودو المطربين ان يبدؤوا بغنائه الكوبليه، وهو من مقام البيات لحلاوته وطراوته وصعوده إلى طبقات أعلى وهو مقطع (من تزعل)، لذلك لمح طالب القره غولي إلى المتسابق أن يبدأ من البيات، أما أصل الأغنية هي فعلا من مقام النهاوند وانت ليس بخاطئ، هكذا أزاح مني الخفاف ثقل التشكيك بعبقري اللحن العراقي طالب القره غولي، وارجاع ثقتي بنفسي وأغنية "مره ومره" اغنية كل المواسم والعصور وستبقى متجدده كلما عتق
الزمن.