( 1 )
تعود مسيرة النقد الأدبي الحديث في العراق، وتحديداً نقد السرد، ومهما أُخذ عليه في فترات ومراحل من هذه المسيرة، إلى منمتصف عشرينيات القرن الماضي، ولم يسبق تلك الفترة نشاط يمكن أن ينتمي إلى النقد الأدبي، بل من الممكن أن نلمح، في العقد الثاني والنصف الأول من العقد الثالث، ما قد يرتبط بشكل هامشي بالنقد، ولا ينتمي فعلاً إليه، وذلك من خلال مجيئه كلاماً عاماً عن الفن القصصي، وليس معالجةً الفن نظرياً ولا كعالجه نصوصه تطبيقياً.
وهو عادةً ما جاء بشكل “إشارات عابرة إلى هذا الفن، كانت تستهدف التعريف بالفن القصصي، وتعكس فهماً ساذجاً له”. كما يصفها الدكتور عبد الإله أحمد، في بحثه “الفن القصصي في العراق، دراسة في نشأته وتطوره، [مجلة الجامعة المستنصرية، ع1، 1970، ص76] وحتى حين تكون هذه الكتابات أكثر من مجرد إشارات فهي لا تتعدى أن تكون تعريفاً ببعض الأعمال الغربية وربما استحساناً
ذاتياً لها. وهكذا انتقالاً إلى منتصف العشرينيات، وبمراجعة الكتابات (النقدية) نجدها، حتى مع كل ما يُؤخذ عليها وهو أمر طبيعي، تشتمل على بعض الوعي النقدي والأسلوب النقدي والمعالجات البسيطة ولكن النقدية، وكما يتمثل أكثر ما يتمثل في ما نراها الكتابات الرائدة تاريخياً للنقد العراقي الحديث، وهي تحديداً كتابات محمود أحمد السيد التي ظهرت بين منتصف العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات، ليكون صاحبها بذلك رائد نقد السرد في العراق، كما هو رائد الرواية العراقية ورائد القصة القصيرة العراقية. فمن كتاباته الأولى التي تدل عناوينها، وحدَها، على الوعي المبكر لهذا الرائد: “الريالزم” في مجلة (المعرض) في عام 1926، و”نزعة من نزعات الأدب القصصي التركي في هدم التقاليد البالية” في مجلة (الاستقلال) في تموز 1927، و”في الأدب القصصي، فجر القصة في العراق” في مجلة (البلاد)، في حزيران 1930. ولكن كتابات السيد تلك لم تكن كافية لتأشير البداية التاريخية لهذا النقد، لو لم تصاحبها كتابات لآخرين، وهو ما نجده حاضراً فعلاً. فمن كتابات الآخرين المبكّرة نذكر: “مقام الرواية في الأدب” لعبد الغني شوقي في جريدة (الفضيلة) في حزيران 1927، و”فن القصة والوسط العراقي” لممتاز أكرم فهمي في مجلة (النهضة العراقية) في نيسان 1930، و”قصة جلال خالد” لأنور شاؤول في جريدة (العالم العربي) في آذار 1931، و”القصة والمرأة” لشالوم درويش في جريدة (العراق) في آذار 1934، وأخيراً عدة مقالات نقدية تطبيقية مهمة وناضجة لعبد الحق فاضل، وغالبيتها منشورة في (المجلة) الموصلية عام 1939. والحقيقة أن تلك المدة، وتحديداً الممتدة من منتصف العشرينيات إلى بداية الأربعينيات أو منتصفها، تشكل المرحلة الأولى في مسيرة نقد السرد العراقي، ويمكن أن نسميها مرحلة المحاولات
والنقد البسيط.
( 2 )
وإذا كانت تلك المرحلة-مرحلة المحاولات والنقد البسيط- قد قدمت كتابات مبكرة تغلب على معظمها المعلوماتية والمواقف الانطباعية والذاتية العامة، أكثر منها كتابات ناضجة، مع تمثّل مثل هذا النضج ولكن بشكل محدود في بعضها، فإن كتابات مرحلة مقبلة تمتد من نهاية الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات وربما بداية الستينيات، قد شهدت مثل هذا النضج، ولكن يبقى الكثير منها، مع هذا، مبشّراً وممهّداً أكثر منه مقدماً للنضج كاملاً، ولكن بما يعني أن هناك بعضا آخر قد أسهم في التأسيس فعلاً. ولعل في ظهور كتابات بأقلام عربية/ غير عراقية في نقد السرد العراقي ما أسهم في دفع نقد العراقيين للسرد إلى الأمام. وهكذا، إلى جانب كتابات نقاد عرب مهمين تناولت السرد العراقي، مثل سهيل إدريس وعيسى الناعوري وأحمد كمال زكي، ظهرت كتابات لعراقيين أشّرت جديّة المحاولة بل الإنجاز النقدي، لعلّ من أهمها “صراع” لعبد اللطيف شرارة، في مجلة (الآداب) اللبنانية عام 1949، و”أشياء تافهة” في مجلة (الأديب) اللبنانية عام 1950 و”ملاحظات في حصيد الرحى” في جريدة (صوت الأهالي) في عام 1954 وكلاهما لعبد الملك نوري، وفيض” في جريدة (الهاتف)، عام 1952 و”فن القصة في العراق” في مجلة (الأديب) عام 1954 وكلاهما لصفاء خلوصي، وكتابات عديدة لفؤاد التكرلي منها “القصة العراقية والدكتور سهيل إدريس” في مجلة (الأسبوع) في عام 1953، وكتابات عديدة أيضاً لنهاد التكرلي منها “التطور الفني للقصة الحديثة” عام 1953، و”العيون الخضر وفن الأقصوصة” في مجلة (الأسبوع) عام 1953 و”عباس أفندي وفن القصة القصيرة” في (أماسي الاتحاد) في تموز 1960. ومن الكتابات الأخرى “حول نشيد الأرض” لمحيي الدين إسماعيل، في جريدة (لواء الاستقلال) عام 1954، “فن القصة” لجبرا إبراهيم جبرا، في في مجلة (أهل النفط) عام 1956، و”كلمة في القصة القصيرة”في مجلة (المعلم الجديد) عام 1957، للدكتور علي جواد الطاهر،و”الغربة في قصص من فينا” لباسم عبد الحميد حمودي، في مجلة (الآداب) في آذار 1958، والعديد من الكتابات لغائب طعمة فرمان ومنها “عباس أفندي لعبد الرزاق الشيخ علي” في جريدة (اتحاد الشعب) في شباط 1960، و”غضب المدينة” في جريدة (اتحاد الشعب) في آذار عام 1960.
( 3 )
لقد سجل نقد السرد العراقي في هذه المرحلة تجاوزاً ملحوظاً عن (نقد) المرحلة السابقة، بل هو تخطى المحاولة ولكن، مع هذا، هو بشّر ومهّد أكثر منه قدّم، وحين نقول بشّر ومهّد فإنّ هذا يعني أنه اتّجه نحو التأسس الحقيقي الذي ننتظره ولا بدَّ أن يأتي. ولعل من أهم ما اتّسمت به هذه (الحركة النقدية) اختلافاً عما سبق وكما عما سيأتي، اشتماله على شيء من التنظير في الكتابة عن فن القصة وهو تنظير عكس فهماً ملحوظاً لعددٍ ليس بالقليل من كُتّابها ومنهم عبد الملك نوري وجبرا إبراهيم جبرا والأخوان نهاد التكرلي وفؤاد التكرلي. وكانت من سماته المهيمنة المتابعة والتناول التطبيقي للنتاج القصصي العراقي، ونظرة إلى قائمة الكتابات النقدية تثبت هذا بشكل واضح. ومن سماته أيضاً ظهور ظاهرة النقاش ما بين النقاد حول قضايا معينة وأعمال قصصية معينة. وقد نضيف ظاهرة شكلية أكثر منها خصيصة، وهي أن الكثير من كتابات المرحلة، بل المرحلتين، قد كُتبت بأقلام مبدعين، نعني قاصين.
كل هذا يدفعنا إلى دعوة الباحثين والدارسين، أكاديميين وغير أكاديميين، وطلبة دراسات عليا إلى دراسة هذه المرحلة أو المرحلتين: مرحلة المحاولات، ومرحلة التمهيد للتأسيس، وروّاده، وأهمهم: علي جواد الطاهر وفؤاد التكرلي ونهاد التكرلي، وإلى حد ما محمود أحمد السيد وعبد الحق فاضل وعبد الملك نوري وصفاء خلوصي وغائب طعمة فرمان.