الآخر في كتابات عصر النهضة العربيَّة
صفاء ذياب
يحدّد الدكتور سعيد علوش؛ في (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة)، تمثيل الآخر بأنَّه “دراسة صورة شعب عند شعب آخر باعتبارها صورة خاطئة”، وهو ما أكدّته دراسات الاستشراق وفي مقدمتها مؤلفات إدوارد سعيد وعبد الله العروي وحسن حنفي. وفي هذه النقطة، فإنَّ بحث طبيعة الذات بالآخر، وهي النتيجة التي تسفر عنها أنواع أهمّها الآخر الديني والآخر الجندري والآخر الإثني. فعملية وعي الذات ترتبط ارتباطاً مباشراً بهويّتها مقارنة بالآخر الذي تميّزت عنه، البحث عن الذات يقابله؛ بشكل أو بآخر، البحث عن الآخر، ومن خلال المقارنة تتشكّل التمثيلات، ومن ثمَّ المقارنة التي من شأنها أن تعطي صورة واضحة للذات وللآخر في الوقت نفسه.
وفي سعيه للوقوف على هذا المصطلح (الآخر)، يقدّم الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (الغرب والإسلام.. الأنا والآخر) توصيفاً لجذورها، وصيغتها، مبيناً أنَّ “كلمة (آخر) فإنَّها وإن كانت تدخل عليها (ال) التعريف، فهي في أصل معناها صيغة (أفعل) (أأخر) من التأخّر، أي المجيء بعد، فهي لا تفيد الضدية وإنَّما يقال (لأحد الشيئين) (هذا باب، وهذا باب آخر)، وفيها معنى الصفة والنعت كما في مرادفها (غير). وكلمة (غير) نفسها من الألفاظ الموغلة في الإبهام لأنَّ معناها لا يتضح إلَّا بما يضاف إليه، وهي لا تستفيد التعريف من المضاف إليه إلَّا عندما تقع بين ضدّين معرفتين مثل قولنا (رأيت العلم غير الجهل).
شكلت الصدمة الأولى التي تعرَّض لها المجتمع العربي بدخول القوات الفرنسية توتّراً واضح المعالم تمثَّل بطرح أسئلة جديدة على واقعه، منها أسئلة حول الدين والحكم والعدل والسياسة والحرب، فضلاً عن أسئلة حول التعليم والبيت والتربية وغيرها الكثير.. لهذا “اتسمت مسألة (الآخرية) وأسئلة الهوية والاختلاف، في الفكر العربي الحديث، بطابع التوتّر الذي يتجلّى أحياناً في التمزّق بين ماضي الذات وحاضر الآخر، وهو التمزّق الذي يعكس وضعية سايكولوجية وصفها بعض الباحثين بأنَّها (مأساوية انفصامية)، حيث الذات تشعر بتمزّقها بين الحاضر الذي يبرز فيه الآخر الغربي بصورته المزدوجة كمتحضر ومستعمر، وبين الماضي الذي يقبع هناك في زمن مضى وانقضى.
على الرغم من ثلاث سنوات من الاحتلال الفرنسي لمصر (1798- 1801)، ومن ثمًّ الشام والمغرب العربي، ليأتي بعده الاحتلال البريطاني لمصر وبقية الدول العربية، إلَّا أنَّ هذه المرحلة لم يكتب عنها بشكل مباشر، إلَّا في الحديث عن المقاومة التي أبدتها الدول العربية والعنف الذي كانت تمارسه الدول المستعمرة.
الصدمة الأولى أدخلت العرب في مخاض جديد، وهو أنَّ انغلاقهم لا يعني أنَّه ليس هناك عالم مختلف عنهم، ومن ثمَّ؛ كان عليهم اكتشاف هذا العالم عن قرب، ومن الداخل، فكانت الصدمة الثانية التي تمثَّلت بالرحّالة العرب الذين سافروا إلى دول أوروبا، بعضهم للدراسة، وبعضهم للعمل، وآخرون للسياحة، وبسبب هذه الرحلات بدأ الصراع بين الذات وبين الآخر، كما أنَّ “تغير ذهنية الرحالة يستتبعه قلق وتمزق داخلي إذ تتنازع المرء مؤثرات متناقضة: فمن جهة تمسك العربي بهويته الشرقية العربية القائمة على الموروث التليد الذي مثّل الاستمرار في الزمان، ثم أثار إعجابه بالغرب وتقدمه سؤالاً آخر: إلى أيِّ حدٍّ كان تمسكه بهذا الموروث العربي الأصيل سبب جموده، وتخلفه. ولذلك رغب، من جهة ثانية، في اقتباس الحضارة الغربية التي اعتبرها القوّة والتطوّر، غير أنَّه خاف أن يكون اقتباسها سبب ضياع وفقد الهوية. وتجلّى هذا الصراع الفكري والحضاري بوضوح في أدب الرحالين لأنَّهم لمسوا عن كثب الفوارق بين الحضارتين العربية والأوروبية”، حسب ما ترى الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، الدكتورة نازك سابا يارد.
صدمة الآخر الثانية بدأت- بحسب نازك سابا يارد- مع البعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى باريس التي انطلقت في العام 1826 حينما بعث رفاعة رافع الطهطاوي؛ وهو الأزهري، مشرفاً على طلبة للدراسة في باريس، وبعد ثلاث سنوات من عودته في العام 1831، نشر الطهطاوي كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الذي دوَّن فيه مشاهداته في العاصمة الفرنسية باريس، ليأتي بعده أحمد فارس الشدياق الذي هرب من لبنان وعاش في لندن لثلاث سنوات، وسنوات أكثر للعمل في مالطا؛ إذا ألّف كتابه المعروف (الواسطة في معرفة أحوال مالطة)، ومن ثمَّ فرنسيس فتح الله مرَّاش، وفرح أنطون، وقبلهما خير الدين التونسي، و”نلاحظ أنَّ كلاًّ من الطهطاوي وخير الدين والشدياق ومرّاش قد أحس بالحاجة إلى تدوين مشاهداته وانطباعاته في أسفاره، لا حاجة ذاتية، بل حاجة سياسية واجتماعية، إذا صح التعبير. أو قل، هي الذاتية الفردية التي اتسعت حتَّى غدت قضايا السياسة والاجتماع حالات انفعال فيها. ذلك أنَّ رحالينا شاهدوا واقع المجتمع الغربي وشعروا بالفرق الشاسع بينه وبين مجتمعهم الشرقي في المضمار السياسي والاجتماعي والعلمي، فأبدوا إعجابهم بمعظم ما رأوا في الغرب، كما أعربوا عن ألمهم لتخلف الشرق، وأحسّوا بأنَّ هذا الشرق لن يتطوّر إلَّا إذا اقتبس علوم الغرب ونظمه السياسية والاقتصادية. وعليه قال الطهطاوي إنَّه وصف مشاهداته في فرنسا كي يوقظ (من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم)، بل حثَّ الشدياق معاصريه على السفر إلى أوروبا ليدوّنوا مشاهداتهم في كتب تفيد الشرقيين... إلَّا أنَّ رحّالينا نظروا إلى الحضارة الغربية بعيون شرقية كوّنها موروثهم التاريخي والحضاري والفكري والديني، ومن هنا نشأ الصراع الفكري والحضاري”. اهتم الرحّالة بالنظر إلى الآخر من جوانب عدَّة، لكن أهمها كان اهتمامهم بنظم الحياة اليومية، والعدالة والديمقراطية، وكان في مقدّمة اهتمامهم التفاتهم للنظم السياسية التي كانوا يعدّونها هي المؤسّسة الرئيسة للتحوّلات التي تطرأ على أيِّ بلد، ولا تكتم الدكتورة نازك سابا يارد رأيها، حين تصرّح أنَّ “أهم الأسباب التي دفعت الرحالين المسلمين، لا المسيحيين، إلى العناية بالنظم السياسية هو شعورهم بأن انتصار الغرب السياسي والاقتصادي والحضاري يهدّد الإسلام نفسه إن لم يتدارك الأمر بالإصلاح. وقد عبّر رفاعة عن هذا الإحساس حين قال: (لولا أن الإسلام منصور بقدرة الله سبحانه وتعالى لكان كل شيء بالنسبة لقوتهم (يعني الإفرنج) وسوادهم وثروتهم وبراعتهم وغير ذلك)”. وغالباً ما كان التنويريون العرب يقارنون بين حالهم وما وصل إليه الغرب، هذه المقارنة التي كان دافعها الأوّل إصلاح التخلّف الذي تعيش فيه المجتمعات العربية، ومن ثمَّ سعيهم لإخراج هذه المجتمعات من الجهل بما يدور حولهم، وبالحال الذي وصلوا إليه.
بين الطهطاوي وشدياق
أهم ما قدمه اثنان من أوائل التنويريين العرب، وهما رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، أنَّهما تمكّنا من قراءة الواقعين؛ العربي والأوروبي، وكتبا مقارنين بين هذين الواقعين، في سعيهما لإيقاظ العقل العربي من سباته، ودعوتهما لتكون مجتمعاتهما ضمن حركة التاريخ التي لن تتوقّع، وبدلاً من أن تكون تلك المجتمعات من التاريخ، طالبا بأن تكون في التاريخ نفسه... فأشارا إلى أنَّه كان من نتائج الثورة الفرنسية فصل الدين عن الدولة، وإن بقيت الكاثوليكية دين الملوك الفرنسيين ومعظم الشعب. ولكن يبدو أنَّ الطهطاوي لم يلحظ ذلك، أو أنَّه لم يعره اهتماماً خاصّاً. ففي ما أورده كلّه عن نظام الحكم الدستوري في فرنسا، لم يشر مرَّة واحدة إلى أنَّه نظام علماني فصل الدين عن الدولة، بل حاول، على العكس من ذلك، أن يجد في الإسلام والشريعة أسس نظم الحكم البرلماني الأوروبي.
أمَّا الشدياق، فليس في دين آبائه ما يرتبط بالنظم السياسية من قريب أو من بعيد، بل رجع إلى قول المسيح “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ليؤكّد “أنَّ المسيح ورسله أقروا ذوي السيادة على سيادتهم”. فما دام المسيح قد وضَّح أنَّ لكلٍّ من الدين والسياسة ميدانه الخاص، سهل على الشدياق أن يؤمن بوجوب الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية. ودعا إلى سيادة الأولى على الثانية حين عرض لمحنة أخيه أسعد وتهجّم على الكنيسة المارونية واتهمها بالخروج عن ولاية السلطان العثماني وإقامة دولة داخل دولة حين حاكمت أسعد بدلاً من أن توكل أمره إلى حاكم شرعي، الدكتورة نازك سابا يارد.
وأفضل ما قدّمه التنويريون العرب في حديثهم عن الحكم في أوروبا أنَّه لم يكن صالحاً لأنَّه مقيّد فحسب، بل لأنَّه ليس فردياً. فوجود مجلس النواب يحفظ للرعية حقوقها وحريتها. ففي الفصل الثالث من المقالة الثالثة من “تخليص الإبريز” رسم الطهطاوي صورة مفصّلة للوزارات والدواوين في فرنسا، و”لديوان رسل العمالات” المنتخب. وترجم كلٌّ من الطهطاوي وخير الدين القوانين الخاصة بإجراء الانتخابات في فرنسا ليعلّما مواطنيهما أصول النظام الديمقراطي ومبادئه. كذلك وصف الشدياق مجلسي الأعيان والنوّاب في انكلترا، مبيناً ما نجم عن هذا النظام من أمن وعدل وازدهار. وقبل أن يغادر الطهطاوي فرنسا، اندلعت ثورة سنة 1830، فخصّها بفصل من “تخليص الإبريز” مبيناً أسبابها، مبدياً إعجابه بإباء الفرنسيين وحرصهم على حريتهم، وتوصّلهم إلى اختيار ملكهم. فيحس القارئ بأنَّ الطهطاوي سلّم بحق الشعب في اختيار ممثليه، ومحاسبتهم على أعمالهم، والثورة عليهم إذا أهملوا واجباتهم أو نقضوا القوانين. غير أنَّ هذا الموقف تغيّر في “مناهج الألباب” ولعلَّ الحكم الأوتوقراطي في مصر، وما أصاب الطهطاوي حين نفاه عبَّاس، هو الذي جعله يخفّف من غلواء حماسته. فآن عرض لموقف الشعب من الحاكم الذي يرفض أن يتقيّد بالقوانين صرَّح بأن “عليهم الطاعة الكاملة له لقوله تعالى: أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
غير أنَّ الشدياق لم يبال كثيراً بنظم الحكم في أوروبا، وحين التفت إليها قيّمها تقييماً أخلاقياً لا سياسياً، ولم يقرنها بنضال الشعب من أجل الحرية والمساواة، بل بفكرة العدالة بمعناها القانوني. فرأى، مثلاً، أنَّ مظاهر العدل التي شاهدها في إنكلترا جاءت نتيجة اختصاص الموظفين كلٌّ بعمله، ومعرفتهم واجباتهم وحقوقهم، ولم يبيّن أنَّ هذه العدالة كانت ثمرة صراع طويل بين سلطة حاكمة مستبدة وشعب قيدها تدريجياً. وعليه استنتج الشدياق أنَّ مظاهر الظلم في الشرق ناجمة عن أنَّ الشرقيين لا يعرفون حقوقهم وواجباتهم، ويتدخّلون في ما لا يعنيهم.
من جانبها، تشير إليزابيث سوزان كسّاب في كتابها (الفكر العربي المعاصر.. دراسة في النقد الثقافي المقارن)، إلى أنَّ الاحتكاك المكثّف مع أوروبا ساهم، خلال القرن التاسع عشر، في رسم صورة معيّنة لتلك القارّة، ترافقت مع بروز تحليلات عن المنطقة العربية. وسرعان ما تغيّرت هذه الصورة تزامناً مع تغيّر نوع الاحتكاك، وتحديداً حين تحوّلت القوى الأوروبية إلى دول استعمارية محتلّة. بصورة عامّة، كام مفكّرو عصر النهضة يتوقون إلى استيعاب أسرار التطوّر وفهم الأسباب الكامنة وراء تقدّم أوروبا وتفوّقها على أمل تطبيق الخطوات نفسها في مجتمعاتهم الخاصة. بالنسبة إلى البعض، تركّز الاهتمام الأكبر على اكتساب مصادر القوّة من أوروبا بهدف استعمالها ضدّ توسعها الاستعماري. كذلك، برزت الحاجة إلى تحديد الهوية الذاتية في وجه هذه الثقافة المنتشرة وفي وجه الحداثة التي رافقتها. وتقدّم كسّاب عدداً من الأسئلة التي كانت بحاجة إلى إجابات خلال القرن الثامن عشر: كيف يمكن تحديد الثقافة المصرية، أو العربية، أو المسلمة بالنسبة إلى الثقافة الأوروبية؟ ما هو الرابط بين الثقافتين؟ هل يمكن إيجاد جذور أو أوجه أو عناصر مشتركة بينهما، أو أن الثقافتين غير قابلتين للمقارنة؟ ركّزت مختلف الأجوبة على العدل السياسي، والعلم، والدين، والتمييز الجنسي بطرائق مختلفة. وفي الوقت نفسه، يسعى الطهطاوي إلى فهم أسرار تطوّر تلك المدينة على أمل اعتمادها في بلده الأم الذي يتخلّف، في رأيه، عن المجتمع الفرنسي على مستويات عدّة. وفي معظم الأحيان، يبدو الكاتب منذهلاً بما يراه من دون تبريرات متنوّعة لتفسير سبب بحثه عن مبادئ التطوّر في بلد غير مسلم وفي إنجازات غير دينية. و”يؤكد الكاتب أنَّ إيمانه يشجّع المسلمين على البحث عن المعرفة والحكمة في جميع الأماكن، وأنَّ هذه الحضارة الأوروبية ليست غريبة كلّياً عن المسلمين لأنَّها ترتكز على العلوم الإسلامية التي صُدّرت إلى أوروبا في القرون الوسطى، وأنَّ الإنجازات التي يجب الاقتداء بها كانت نتاج جهود الإنسان، لا الديانة المسيحية مثلاً- ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه التبريرات حججاً ثابتة للدفاع عن الاستعارة من الأجانب”. فالطهطاوي يكتب بأسلوب ينمُّ عن فضول كبير بشأن حيّز واسع من جوانب الحياة في باريس: العادات والتقاليد الاجتماعية، الأدوار الاجتماعية للجنسين، الهندسة المعمارية والهندسة الداخلية للمنازل، طبيعة وسائل الترفيه في الداخل أو في الخارج. كذلك يصف الكاتب المتاجر والمطاعم والمقاهي وقاعات الاحتفالات والمسارح والمتاحف؛ ويتكلم على نظام النقل، وخدمة البريد والضرائب؛ وينقل حالة المستشفيات، والمدارس والجامعات؛ ويتطرق إلى الصحافة، والمؤسسات الاقتصادية والمصانع؛ ومن ثمَّ يقدّم شرحاً مفصلاً عن انتفاضة باريس في العام 1830.
فرنسا التي اختبرها الطهطاوي في باريس تحوّلت، وكذلك بريطانيا، إلى قوّة محتلّة في المنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنَّ هذا التغيير الهائل أثّر في نظرة العرب إلى أوروبا، التي لم تعد تعتبر في المقام الأول مهداً للتطوّر الحضاري، بل هي تهديد ملموس عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. “فهم لم يتوقّفوا عن الاعتراف بتفوقها الحضاري، ولكنّهم باتوا الآن يعتبرون هذا التفوّق تفوقاً في النفوذ وسط صراع خطير، وتحوّل البحث عن أسرار التطوّر إلى بحث عن وسائل لاكتساب النفوذ. لذلك، طغى على أفكار العرب حول الثقافة والسياسة والغرب القلق بمسألة النفوذ، والصراع على السلطة والانشغال بفكرة أنَّ أوروبا هي قوّة خطيرة. وهكذا برزت أوروبا التكنولوجية، وأوروبا الثقافية، وأوروبا السياسية: الأولى يجب تقليدها لأسباب تقنية، والثانية يجب رفضها لأسباب متعلّقة بالسيادة. بالنسبة إلى البعض، يفتقر هذا التمييز إلى الرابط الأساسي بين تلك الجوانب، وتحديداً الجانبين الأولين، ولاسيّما الجانب المعرفي والجوانب الثقافية والإنسانية والديمقراطية الأوسع، بالرغم من جميع جدليات التنوير والحداثة. وبالنسبة إليهم، يمنع هذا التمييز تحقيق عدالة فاعلة، وبالتالي يرسّخ التراجع والتبعية. وعلى ما يبدو، تزيد هذه الاعتبارات كلها في صعوبة تكوين فكرة متماسكة وبنّاءة عن الغرب”كما تدوّن كسّاب.
وبملاحظة بسيطة، فإنَّ الرواد الأوائل، من أمثال ناصيف اليازجي (1800- 1871) وأحمد فارس الشدياق (1804- 1887) وبطرس البستاني (1819- 1883)، قاموا بترويج رؤية معيّنة خاصّة بمفهوم الهويّة، ترتكز على الإرث الأدبي العربي وتاريخ العرب المشترك، فضلاً عن التعاضد حول هذه الهويّة في مختلف الفئات الدينية، لكن ضمن حدود السلطنة العثمانية. غير أنَّهم في الوقت نفسه أسّسوا لمفهوم آخر، وهو البحث عن المختلف عنهم، ديناً وفكراً وطبيعة اجتماعية، ليقدّموا رؤاهم عن كيفية الدخول إلى قلب التاريخ، وعدم ارتباطهم بالماضي فحسب، حتَّى على مستوى رجال الدين، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن ثمَّ عبد الرحمن الكواكبي، فإنَّهم حين طالبوا بالالتزام بالشريعة الإسلامية والابتعاد عن التقليد الأعمى للغرب، فإنَّهم في الوقت نفسه رفضوا أن تكون تلك الشريعة كما كانت في صدر الإسلام، بل اتخاذ فترة الخلفاء الراشدين نموذجاً، مع تقديم رؤى جديدة عن حياتهم المعاصرة، وتطوّر المعاملات الدينية تبعاً للتطوّر الذي يطرأ على الحياة الاجتماعية والسياسية عموماً.