ميزوبوتاميا مصير {صانعة الملوك}
أوليفييه غيز
ترجمة وتقديم: كامل عويد العامري
كانت تحمل العالم بين يديها. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، رسمت جيرترود بيل حدود الشرق، في تلك الصحراء البكر حيث بدأت الحضارة: بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات. مغامِرة، عالمة آثار، جاسوسة، تتحدث العربية والفارسية، والمرأة الأقوى في الإمبراطورية البريطانية، لكنها أيضاً بطلة تراجيدية. مثالية مثل صديقها وروحها التوأم، لورانس العرب. ذات نزعة امبريالية مثلها مثل الشاب ونستون تشرشل. من عائلة بريطانية ثرية. عاشقة ومخلصّة. ولغز بالنسبة لكثيرين: واحدة من النساء اللواتي طمسهن التاريخ. لكن الكاتب أوليفييه غيز يعيد لها مجدها وتألقها: من اكتشاف حقول النفط العملاقة إلى الصراعات والمناورات القوية القاسية بين البريطانيين والفرنسيين والألمان، من المفاوضات تحت الخيام البدوية إلى رمال بغداد. رواية جيرترود بيل ترسم اللوحة الواسعة للعولمة الأولى، عندما استحوذت أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت على منطقة أسطورية، أرض إبراهيم، والطوفان، وبرج بابل، ومرقد الإسكندر الأكبر: بلاد ما بين النهرين.
يقدم الكاتب في مستهل الرواية ما يشبه نظرة لا علاقة لها بالسرد، وكأنه يريد أن يقدم مدخلاً للقراءة، جاء فيها: “
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت الاقتصاديات العالمية لأول مرة في تاريخ البشرية مترابطة. فقد تدفقت السلع ورؤوس الأموال والشخصيات بسرعة غير مسبوقة بفضل الثورة الصناعية، ووسائل النقل الجديدة والاتصالات: تحققت أحلام إيكار وليناردو دا فينشي في غضون بضع عقود. الإنسان يسير، يطير، ويكتشف علاجات لأمراض وفيروسات كانت غير قابلة للعلاج حتى ذلك الوقت. لقد تجاوز حدود الطبيعة. وهو عازم على إخضاعها في المستقبل،
وقد أنهى الأوروبيون آلاف السنين من العجز ... إنهم يهيمنون على الشؤون الدولية، انطلاقاً من قوانين غير مرئية قائمة على التوسع والمنافسة. ولم يشبعوا بعد، انتابتهم حمى من نوع جديد: هي الحمى الاستعمارية. لا ينبغي أن يفلت أي إقليم منهم، حتى أصغر جزيرة في المحيط الهادئ يجب أن تكون لهم.
لطالما كانت هذه المنطقة مغمورة تحت ظل اكتشاف الأمريكيتين والتفاف السفن حول إفريقيا بقيادة فاسكو دا غاما، والذي فتح الطريق إلى الهند عبر البحر، ولكنها الآن تستعيد مكانتها كمركز للعالم، كما كانت في زمن الإسكندر الأكبر وقيصر، وفي عهد الخلافات العربية الأولى، وطُرق الحرير. بعد أن كانت مهملة لقرون، ولم يستكشف منها إلاّ القليل في بعض الأماكن، وكان ارتباطها بالاقتصاد العالمي ضعيفاً، أصبح الشرق الأوسط الآن محط أطماع القوى الكبرى. لقد اندلعت معركة شرسة على هذه المنطقة منذ أن قصّر افتتاح قناة السويس في عام 1869 بشكل كبير زمن النقل بين أوروبا وشرق إفريقيا وآسيا، ومنذ اكتشاف النفط، الذي أصبح محرك الثورة الصناعية الثانية، واستغلاله حديثاً. وهكذا تشكل مستقبل العالم. في القرن العشرين على أراضي الإمبراطورية العثمانية المتداعية، والتي سعى الجميع لإنهائها”.
**
أوليفييه غويز يقدم في روايته الجديدة «ميزوبوتاميا» صورة لجيرترود بيل، التي مثلتها نيكول كيدمان في عام 2015 في فيلم «ملكة الصحراء» من إخراج فيرنر هيرزوغ. فهي، كما يصفها لورانس العرب، شخصية غير معروفة بشكل كافٍ، لكنها “عالمة آثار، مستكشفة، كاتبة، سياسية، جاسوسة ودبلوماسية بريطانية.
من خلال مصير هذه المرأة غير العادي، يسلط الكاتب الضوء على الوضع التاريخي لتلك الحقبة التي شهدت نشوء الشرق الأوسط من 1916 إلى 1922، وهو وضع لا يزال يؤثر في العالم المعاصر. ولا يخفي الكاتب تناقضات بطلته من دون أن يحكم عليها. على الرغم من كونها متقدمة على زمنها، لم تكن يوماً نسوية، بل كانت أيضاً سكرتيرة في لجنة مناهضة حقوق المرأة. وبما أنها كانت تعتبر العرب غير قادرين على إدارة بلادهم بشكل مستقل، فإن تعليمها النخبوي جعلها تقول وتكتب أن معظم نظيراتها لم يكن لديهن العقلية والتعليم اللذين يؤهلانهن لحق التصويت. لم تكن لديها العديد من الصديقات. ستقودها أحكامها المسبقة وقليل من الغرور إلى ارتكاب بعض الأخطاء السياسية والاستراتيجية.
وبالتالي، فإن رواية «ميزوبوتاميا» تروي المصير المذهل لجيرترود بيل، الشخصية البارزة في دبلوماسية الكومنولث. بعد أن كانت لفترة طويلة مغمورة بسبب شهرة لورانس العرب، صديقها الكبير والمعروف الذي تعرفت عليه في ربيع عام 1911، وتسلط الضوء على هذه الشخصية الفريدة ومكانتها. كامرأة ذكية بالنسبة للرجال في زمنها، عالمة، مستكشفة، جريئة، دبلوماسية قوية، ولكنها أيضاً امرأة مثالية، غير مفهومة، بطلة مأساوية بأحلام غير واقعية، تتسم بالتناقض. وقد وصفها الملك فيصل بالمرأة القوية. وكمستكشفة، وعالمة آثار بارعة. سُميت إحدى قمم سويسرا باسمها، لكن لا توجد أفكار ثورية لدى هذه البرجوازية التي ترفض حركة الناشطات.
فمنذ رحلاتها الأولى إلى اليونان، وروما، وبترا. في سن المراهقة، كانت تقف مذهولة أمام النقوش الآشورية في المتحف البريطاني، مبهورة بمشاهد صيد الأسود. وكان جيلها متحمساً لعمليات الحفر والتنقيب في مواقع العصور القديمة الكبرى. بابل، وسوسة، ووادي الملوك: كانت الحضارات تكشف تدريجياً عن أسرارها وتستعيد حياتها بعد قرون من الصمت.
تظهر جيرترود بيل، كما يراها أوليفييه غويز، على أنها “عانس متجهمة وغريبة الأطوار، “الملكة العذراء”. ومع ذلك، كانت امرأة الظل التي عرفت كيف تدير خيوط السياسة الجغرافية بتأثيرات كبيرة. تم قبولها كـ “ضابط سياسي” وسرعان ما تمت ترقيتها إلى “سكرتيرة شرقية”. سيكون هناك رجل واحد فقط قادر على إقناع قلبها وعقلها، وهو المقدم دافتي- ويلي، الملقب بـ “ديك”، الذي يظن أوليفييه غويز أنه ستكون له ليلة حب مهذبة جعلت جيرترود تصرخ من رغبة مكبوتة!
تبدأ الرواية من البصرة: فبعد افتتاح قناة السويس في عام 1869، بدأت البصرة، المدينة الثانية في العراق بعد بغداد، تحتل مكانة مهمة منذ بداية القرن العشرين. وكان السير بيرسي كوكس رئيس الإدارة المدنية في ميزوبوتاميا، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني. يسعى أن يكون الجيش البريطاني هو الأول من بين الغربيين في غزو ميزوبوتاميا منذ الإمبراطور الروماني تراجان. وبدءاً من العام 1908، أصبحت ميزوبوتاميا “جنة عدن” الجديدة و”جنة الله”.
البصرة، مارس - أذار 1916
* تمسح السيدة بيل حذاءها الملطخ بالطين على عتبة المدخل وتبعد بتململ السرب المتطاير من الذباب الذي يحيط بها. يهرع صبي صومالي، يرتدي جلابية وعمامة، حافي القدمين لينزع عنها قبعتها ومظلتها المبللة. يطلب منها أن تتبعه، فالسير بيرسي كوكس ينتظرها في مكتبه. لقد عاد من مهمته هذا الصباح.
كان طويلاً ونحيفاً، وعيناه الزرقاوان نفاذتان، لم يتغير كوكس منذ لقائهما الأخير عند أصدقاء مشتركين في لندن، قبل سبع سنوات. قد يكون شعره المتموج قد شاب قليلاً لكنه لم يكتسب أي تجاعيد ويحافظ على أناقته في ارتداء الزي العسكري. على ياقته، تتعرف السيدة بيل على شارات الضباط السياسيين في جيش الهند: كوكس، البالغ من العمر واحداً وخمسين عاماً، هو رئيس الإدارة المدنية في بلاد ما بين النهرين المحتلة، بعد أن عمل في الصومال وفارس والعديد من الإمارات في الخليج العربي.
مشهور بلباقته وهدوء أعصابه، يثبت كوكس في ذلك العصر خلافاً لسمعته. وهو مختبئ خلف كومة من الخرائط الطبوغرافية والصور الجوية، يلعب بشاربه تحت صورة الملك جورج الخامس ويشتم المطر الذي ينقر باستمرار على سقف مقر قيادته، وهو مبنى يقع على طول قناة راكدة مملوءة بأصوات الضفادع والبرمائيات، اللحن الشتوي للبصرة، المدينة الساحلية عند مصب النهر الذي يفصل بين فارس وبلاد ما بين النهرين.
تسود الفوضى هنا، كما لاحظت السيدة بيل منذ أسبوع وهي في المدينة. تعاني اللوجستيات في جيش الهند من قصور، البريطانيون يتلمسون طريقهم، ويعتمدون على الارتجال، وينقصهم كل شيء. من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، استيعاب مئات الآلاف من الخيول والجنود والأطباء والبراهما الذين وصلوا، وتوفير الإمدادات لهذه القوة الكبيرة من الشرق، بسبب نقص المخازن والمنشآت المبردة للسلع القابلة للتلف. في جنوب بلاد ما بين النهرين لا يوجد سوى التمر وقليل من الخضروات وبعض الماشية، لذا يجب استيراد كل شيء من الهند. ولكن المدينة التجارية القديمة ليست مجهزة لاستيعاب الأسطول الذي يطفو في مياهها. ميناؤها مزدحم، والسفن الكبيرة ترسو في عرض البحر. تحت الأمطار الغزيرة أو الشمس الحارقة، يستغرق الأمر ساعات، بل أيام، لنقل الرجال والحيوانات والبضائع والذخائر إلى وسائل النقل الصغيرة، الزوارق، والسفن الهشة، إلى الشواطئ الطينية الموحلة المليئة بالذباب والبعوض. لقد اختبرت السيدة بيل ذلك، ورغم جواربها، فقد تعرضت للدغات البعوض أثناء عبورها. لاحظت في الطريق أن السفينة الطبية الوحيدة مكتظة، وأن تدفق السفن ليس على وشك أن ينتهي. من مصر والهند، جمعت القيادة العامة قوارب بخارية، ويخوتاً، وسفناً بخارية ساحلية ذات غاطس منخفض، وهي الوحيدة القادرة على عبور نهر دجلة لنقل التعزيزات وتوفير الإمدادات للوحدات في الشمال. كما في زمن إبراهيم، لا توجد طرق مرصوفة أو سكك حديدية في جنوب بلاد ما بين النهرين.
يضغط كوكس على جرس صغير، الساعة السابعة مساءً، ويظهر الصبي مع الشاي. يقول سير بيرسي إلى السيدة بيل، وهو يحرك ملعقته بقوة في فنجان من البورسلين: «نحن في ورطة، ومعنويات الرجال متدنية». يشرب الشاي دفعة واحدة، كما لو كان مشروباً قوياً، غير مبالٍ بحرارة الشراب. «يقاتلون في ظروف سيئة، ويتجولون بلا هدف عندما يحصلون على إجازة. في البصرة، نحن لسنا في خلفية الجبهة الفرنسية. الجنود لا يجدون الكحوليات، ولا الملاهي، ولا النساء، بل المقاهي القذرة التي يرتادها الرجال فقط.» تتورد وجنتا السيدة بيل. وهي تجلس على حافة مقعدها، متصلبة الجذع، ترمقه بنظرة غاضبة. يعتذر كوكس عن فظاظة تعبيراته، ويقول إنها لا تليق بمحادثة مع شخص من مقامها، ويطلب منها أن تسامحه، فهو تحت ضغط عصبي هائل، وأمامه شكاوى كثيرة. القوات تشتكي من سوء جودة طعامها، من اللحم المعلب، البودينغ اللزج المعلب، ومربى البرتقال، «التي يلتف حولها الذباب الشيطاني على الفور». يطالب الجنود النباتيون، «الهندوس المتجهمون»، بدقيق القمح الصلب والخضروات، وفي الأسبوع الماضي، «بسبب نقص المصل»، توفي اثنان من مساعديه، « شابان رائعان من مقاطعة لانكشاير »، بعد أن تعرضوا للدغات الأفاعي في المستنقعات المحاذية للمدينة. نظارات الشمس التي يرتديها الجنود ذات جودة رديئة لدرجة أنهم يرمونها في الماء. القيادة العسكرية غير مبالية، وتوقعاتها - «إذا كان قد خطط لأي شيء أصلاً»، كما تفكر السيدة بيل - أثبتت أنها غير دقيقة، وتعاني من نقص في وسائل النقل الطبية والطائرات؛ الأنهار صعبة الملاحة، والتعليمات التي يتلقاها من لندن ودلهي والقاهرة متضاربة. «مع العرب المحليين، الأمور ليست على ما يرام»، يتنهد كوكس بصوته الجهوري. رئيس الإدارة المدنية في بلاد ما بين النهرين يشعل سيجاراً. من خلال النوافذ، يُسمع صفير الرياح وأذان الصلاة. يحل المساء، وقد توقفت الأمطار، والمدينة تفوح منها الروائح الكريهة.
تدرك جيرترود بيل ذلك. عندما كانت في مهمة في الهند قبل أن تصل إلى البصرة، جعلها النائب الملكي تقرأ بعض التقارير السرية: على الرغم من أن كوكس يتحدث لغتهم ويتقن التفاوض مع السلاطين المحليين، إلا أنه لم يتمكن من بناء علاقات ثقة مع الشيوخ المحليين. انضم آلاف من رجالهم إلى القوات العثمانية وأعلن قادتهم الدينيون الجهاد ضد الإنجليز الكفار، «هؤلاء الكلاب أبناء الكلاب الذين اجتاحوا أراضٍ إسلامية ويريدون إذلال الإسلام». بينما يتشكك آخرون، في انتظار تصرفات الأتراك، ولا يعرفون ما إذا كان البريطانيون سيكتب لهم البقاء. «أنت تعرفين العرب مثلي» قال كوكس وهو يشد ربطة عنقه، «هم دائماً مع المنتصرين.» كانت السيدة بيل، صامتة، تعبث بقفازيها ثم ترتشف بضع رشفات من الشاي. لقد قرأت أن البدو نهبوا المعسكرات، وجردوا الجثث، وذبحوا الجرحى من الإنجليز والهنود لجمع أسلحتهم. هناك لصوص، ومحتالون، وضباع: في المدينة، الأجواء متوترة، الاشتباكات تتزايد، وقد نُهبت المستودعات والمتاجر؛ وفي الكوت، على بعد أربعمائة كيلومتر، الوضع في الفرقة السادسة المشاة ميؤوس منه.
في نوفمبر- تشرين الثاني 1914، بعد بضع ساعات بعد دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا، غادرت سفن بريطانية بومباي وتوجهت إلى الخليج العربي. كانت العملية متوقعة منذ أن بدأت شركة النفط الأنغلو- فارسية (APOC) في استغلال وتكرير النفط من إحدى مقاطعات جنوب غرب إيران التي كانت على مرمى المدافع التركية، والتي لم تكن محصنة بشكل كافٍ من قبل البريطانيين. كان من المقرر أن يهدف الرسو في بلاد الرافدين إلى تأمين ناقلات النفط، وأنابيب النفط التي تمتد على مئة وثلاثين كيلومتراً تربط بين الحقول النفطية ومصفاة على الخليج، فضلاً عن حقول النفط نفسها. كانت المنشآت المحلية توفر النفط للبحرية الملكية، أقوى أسطول حربي في العالم. “بريطانيا تحكم الأمواج”: كانت البحرية البريطانية تضمن الدفاع عن الإمبراطورية على امتداد جميع البحار والمحيطات.
في 23 نوفمبر- تشرين الثاني، سقطت البصرة في أيدي التاج البريطاني. وبعد بضعة أيام، تم الاستيلاء على مدينة القُرنة، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات، بعد معركة عنيفة. مع تأمين الحقول النفطية، دعا كوك، الذي كان في حالة من الانتشاء، إلى مواصلة الهجوم. كان يعتقد أن الأنجلو-هنود سيكونون في بغداد في غضون عام على الأكثر، وسيجعلون من الجيوش العثمانية لحماً مفروماً. كان الضباط الأتراك عديمي الكفاءة، وكان جنود المشاة الأتراك همجاً رثّي الهيئة يلقبون بعبدول أو جوني ترك، ولا يجيدون سوى ذبح المدنيين الأرمن العزل.
قبل الحرب، كانت إيطاليا قد انتزعت منهم ليبيا وجزر دوديكانيسيا - إحدى المقاطعات اليونانية-، وفقدوا ممتلكاتهم البلقانية. كان البلغار على وشك احتلال القسطنطينية. “ البلغار وكتائبهم المكونة من بقايا الخيوط!”، هكذا كان يسخر الاستراتيجيون في جيش الهند. لم يعد للعثمانيين، الذين روعوا أوروبا المسيحية لفترة طويلة، من وجود سوى الظل. وكان البريطانيون سيكونون أول الغربيين الذين يحققون السيطرة على بلاد الرافدين منذ الإمبراطور الروماني تراجان.
في أواخر سبتمبر- أيلول 1915، استولت القوة الاستكشافية على الكوت المدينة الاستراتيجية، على الضفة الشرقية لنهر دجلة. وأُمرت بمواصلة تقدمها. وكتب نائب الملك في الهند إلى الملك جورج الخامس “برنامجي الصغير في بلاد الرافدين يسير بقوة، وأتمنى ضم بغداد قريباً إلى الإمبراطورية البريطانية”، كانت بغداد على بعد أقل من خمسة وعشرين كيلومتراً. بعد اجتياز العقبة الأخيرة، طيسفون، ستسقط المدينة الأسطورية في أيديهم. وقد صرح رئيس الوزراء في أوائل نوفمبر أمام مجلس العموم: “لا أعتقد أن أي عملية من بين جميع العمليات العسكرية في الحرب، كانت مُعدة بعناية أكبر، أو قد أُنفذت ببراعة، وبفرصة أكبر للنجاح”،
كان من المفترض أن تكون بغداد مجرد وهم. فالجبهة الغربية كانت محمدة، ولندن كانت تتعرض للقصف، وانتهى غزو شبه الجزيرة التركية في جاليبولي، على بعد مئتين وخمسين كيلومتراً من القسطنطينية، بكارثة: دمرت الألغام التركية الأسطول، ومن المرتفعات، كان المشاة يطلقون النار على المهاجمين الذين نزلوا في الربيع عام 1915. كان ذلك محاولة لمقامرة من شاب طموح، ونستون تشرشل، أول لورد في الأدميرالية: لقطع رأس الإمبراطورية التركية وجعلها تستسلم عن طريق الاستيلاء على عاصمتها غير المحمية ثم، من البحر الأسود، صعود نهر الدانوب نحو النمسا وألمانيا لـ “توجيه خنجر إلى أقرب النقاط الحيوية للوحش وإنهاء الحرب”، كان هذا هو ما كان يأملون تحقيقه في لندن.
في السابع من ديسمبر- كانون الأول 1915، تخلى البريطانيون عن شبه جزيرة جاليبولي. وشهد اليوم نفسه بدء حصار الكوت، حيث كانت الفرقة السادسة قد تحصنت هناك بعد أن كانت محاصرة في طيسفون. أدرك الأتراك أن منع التعزيزات القادمة من البصرة لتحرير المدينة سيجبر البريطانيين على الاستسلام. لذا حاصروا المدينة مثلما حاصر يوليوس قيصر مدينة أليزيا.
لم تكن القيادة البريطانية قلقة للغاية. فقد كان العثمانيون مهاجمين ضعفاء، ولم تكن هذه المرة الأولى يحاصر فيها رعاع فرقة إمبراطورية. ففي الهند أثناء التمرد العظيم، وفي جنوب إفريقيا أثناء حرب البوير، دافع البريطانيون عن أنفسهم ببطولة وكتبوا بعضاً من أروع صفحات الأسطورة الفيكتورية. ستصمد الفرقة السادسة؛ فقد عززت دفاعاتها في انتظار التعزيزات من فيلق دجلة، قوات المشاة النخبة. وقد أكدت لهم هيئة الأركان أنهم” سيصلون قريباً إلى هنا “
إلا أنه في ظل الفوضى التي عمت البصرة، تخلف البريطانيون عن الركب، وعندما اقتربوا أخيراً من السد، صمد السد الذي أقامه الأتراك في اتجاه مجرى النهر، وتماسك بفعل سيول المياه التي انهالت على المنطقة. كانت الهجمات الأنجلو-هندية تتعثر في محيط من الوحل، ولم يفلح القصف التمهيدي المكثف في تغيير شيء من الوضع. فقد انزلق الجنود وخاضت الخيول وغرقت المدافع في وحل الطين، كالكاراميل الذائب
كانت القوات التركية تقصف المدينة مستثمرة انتصارها في جاليبولي، وكان القناصة يطلقون النار على الجنود الذين نزلوا إلى النهر لالتقاط الطرود التي أسقطتها الطائرات بشكل عشوائي: كان الأنجلو-هنود يفتقرون إلى الغذاء في مواقعهم المحصنة. وكان الجنود، الذين يتغذون على الأعشاب المسلوقة، في حالة من التعب الشديد وغير قادرين على حمل السلاح؛ كانوا يرقدون على الأرض، وعيونهم ساهمة. وفي الليل، بسبب نقص الحطب للتدفئة، كانوا كانوا يتجمدون حتى الموت بزيهم الصيفي وقمصان مانشستر القطنية. وعندما لم تكن القذائف تنهمر عليهم كانوا يسمعون عواء الضباع.
في بداية شهر مارس - أذار، أدرك الأتراك أن الأنجلو-هنود لن يصمدوا طويلاً. فقد انتشر من الكوت وباء التقرحات والفضلات والجثث المتحللة. كان الهواء أسوداً من الذباب. لقد أحكم الأتراك قبضتهم. واشتد قصفهم.
كان من الضروري أن يتعثر الخادم ويسقط إناء السكر لكي تبتسم الآنسة بيل، كما يفكر كوكس. يجدها هزيلة، شاحبة قبل أوانها، رغم أنها كانت لا تزال حمراء في لندن قبل سبع سنوات، يقسم بذلك. لاحظ أنها شحبت كما لو كان قد أصاب قلبها ضربة، عندما ذكر كارثة جاليبولي، قبل أن تستعيد تماسكها، مع تلك التعبيرات المتجهمة والمفكرة التي ترتديها منذ دخولها. بفضل تنورتها الشفافة، وجواربها السوداء الحريرية وقميصها المزخرف المربوط حتى العنق، تبدو كأنها الآنسة هارييت، العانس الحزينة في روايات موباسان، وإحدى المعلمات الإنجليزية اللواتي يجوبن القارات، يرسمن المائية ويملأن دفاتر النباتات، واللواتي قابلهن في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة.
وتساءل كوكس مع نفسه إنه كان لابد من أن يتعثر الخادم ويسقط وعاء السكر حتى تبتسم الآنسة بيل أخيراً. وكان يستطيع أن يقسم أنها كانت حمراء الشعر في لندن منذ سبع سنوات، ولكنها الآن تبدو نحيفة شاحبة قبل الأوان، عندما ذكر كارثة غاليبولي كما لو كانت قد تلقّت ضربة في القلب، وقبل أن تستعيد رباطة جأشها، بدت بتلك السحنة المتجهمة والرصينة التي كانت تتحلى بهل. بتنورتها الموسليني، وجواربها الحريرية السوداء، وقميصها المزخرف الذي يغطّي عنقها بالكامل، وكأنها الآنسة هارييت، العانس الحزينة في روايات موباسان، وكذلك مثل واحدة من تلك المعلمات الإنجليزيات اللاتي يجبن القارات، يرسمن اللوحات المائية ويملأن دفاتر النباتات، واللاتي صادفهن في أنحاء مختلفة من العالم على مدار السنوات الأخيرة.
” إذن، كيف كان أسبوعك الأول في جنة عدن؟ هل استقبلتك زوجتي بشكل جيد؟”،” سأل كوكس، بينما كان ينظف أظافره بطرف فتاحة الرسائل العاجية. شكرته الآنسة بيل على حسن ضيافته. إنها مريحة. فغرفتها واسعة وزوجته” مضيافة رائعة “، على الرغم من أنها والليدي كوكس لا يشتركان في شيء سوى الشغف بالبستنة. ولا حتى في بنيتهما: فالأولى زاويّة الشكل، والثانية ممتلئة ذات فكين كفكي كلب بولدوغ. لا يهم، فالآنسة بيل تقول إنها مسرورة بوجودها هنا - يقرص كوكس نفسه، فلم يسبق لأحد أن نطق بمثل هذا الهراء،” عندما خلق الله جهنم ظن أنها لم تكن كافية، فجعلها البصرة وأضاف إليها الذباب“، كما يقول مثل عربي يحب أن يقتبسه. إن الآنسة بيل حريصة كل الحرص على خدمة الإمبراطورية في هذه الأوقات العصيبة، وستكرس كل طاقاتها لذلك، ولكن يجب أن يسمح لها بالعمل بأن تعطى منصباً.
استقبلها العسكريون والإداريون التابعون لكوكس استقبالاً فاتراً لدى نزولها من الباخرة التي غادرت كراتشي قبل ثلاثة أيام. ولم يكن هؤلاء السادة الذين كانوا يرتدون زيهم الرسمي، ويتسلحون بمضارب الذباب إلى جانب خوذاتهم المصنوعة من الفلين وإبريق من عصير الليمون، يشعرون بالارتياح عندما استقبلوها في مطعم الضباط. فهم لم يسبق لهم أن عملوا مع امرأة من قبل، وهذه المخلوقة التي توصف بالذكاء لا توحي لهم بالثقة. وقد قرأ بعضهم مقالاتها، وأحياناً كتبها عن المنطقة، وعرفوا أنها عالمة آثار مشهورة لها أصدقاء في مناصب رفيعة. فقد كانت أول امرأة تتخرج من جامعة أكسفورد بدرجة الشرف الأولى في التاريخ الحديث، وحصلت على ميدالية من الجمعية الجغرافية الملكية. وقد سبقتها سمعتها في الأوساط المطلعة، سواء في الشرق أو في لندن. ولا تخفي الآنسة بيل حقيقة أن التواضع ليس من نقاط قوتها.
هذه حرب، وليست لعبة أو مناسبة اجتماعية”، كما أوضح عقيد ذو شارب مشمع. كان بريدها يخضع للرقابة، وتحركاتها مقيدة، ولن تتمكن من مقابلة أي مواطن بمفردها. وماذا كانت تفعل في البصرة، وهي التي لم تكن مدرجة في أي مخطط تنظيمي، ولم تكن لديها أوامر بمهمة، ولا تنتمي إلى أي وزارة أو مؤسسة؟
وقبل ذلك بأربعة أشهر، أي في نوفمبر 1915، كانت قد ذهبت إلى القاهرة بدعوة من صديق قديم كان رئيساً للمخابرات العسكرية في مصر تحت السيطرة البريطانية. وكان ينشئ قسماً خاصاً مكرساً للمقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية، يجمع بين ضباط سياسيين وعلماء آثار وصحفيين يتحدثون العربية، وكانت تعرف معظمهم من أكسفورد وكامبريدج. كانت جيرترود بيل، الرحالة الصحراوية الشهيرة، ستقدم معلومات قيمة للمكتب العربي الذي أنشئ حديثا.
مع ملاحظة الفشل الذريع في غاليبولي والمأزق في بلاد ما بين النهرين، كان هؤلاء السادة يبلورون استراتيجية جديدة في صالونات فندق سافوي المليئة بالدخان وهم يحتسون الشاي بالنعناع. كان مكتب القاهرة يبحث عن حلفاء عرب طيعين وموثوقين، مستعدين لشن ثورة ضد الأتراك، حتى لو كان ذلك يعني وعد هؤلاء المساعدين المؤقتين بنوع من المملكة العظيمة بعد الحرب. في بداية الصراع، كتبت جيرترود بيل مذكرة طويلة استناداً إلى بعثاتها الأخيرة إلى المنطقة. وقد أكدت لوزارة الخارجية، ووزارة الحربية، أن العرب كانوا مؤيدين للتاج البريطاني، وأوصت الحكومة بتشجيعهم على التمرد على الأتراك، خصومهم المشتركين. ومن بعيد - حيث كان الصراع يدور في خنادق فلاندرز والسوم - أيدت لندن خطة المكتب. ولكن القاهرة، وهي صاحبة القرار في السياسة البريطانية في المشرق العربي، لم تكن تستطيع أن تقوم بأي شيء في بلاد الرافدين والجزيرة العربية من دون موافقة الشطر الإنجليزي الآخر، أي حكومة الهند.
وكان الخليج العربي حكراً على الإدارة البريطانية المباشرة في الهند، وهو بحيرة كانت تتدخل فيها على راحتها منذ القرن الثامن عشر؛ وكانت وحدها القادرة على توفير السلاح والذهب والرجال اللازمين للعملية. إلا أن حكومة الهند كانت تعارض ذلك. فقد أرادت كل من دلهي والقاهرة السيطرة على الشرق الأوسط بعد هزيمة الدولة العثمانية. وقد اختلفت خططهما وكانت اتصالاتهما ضعيفة ولم يتعاونا فيما بينهما.
أدى هذا التباين بين المركزين إلى تعقيد تنفيذ استراتيجية متماسكة. كانت دلهي تسعى للحفاظ على هيمنتها في بلاد الرافدين ومنطقة الخليج الفارسي، بينما كانت القاهرة ترى في دعم الثورات العربية فرصة لزيادة نفوذها في المشرق. كانت هذه المنافسة الداخلية تضعف فعالية الجهود الحربية البريطانية، مما حال دون التنسيق الفعال وتوفير الدعم اللوجستي الكافي للعمليات الحاسمة في بلاد الرافدين.
ولم ييأس مكتب القاهرة من محاولة إقناع نائب الملك في الهند الذي كان مسؤولاً عن المستعمرة. كان بإمكان الآنسة بيل أن تكون عاملاً حاسماً. فقد كان نائب الملك صديقاً لعائلتها، وكانا معجبين ببعضهما البعض منذ أن التقيا في منزل عم المستكشف، الذي كان سفيراً لبريطانيا في رومانيا آنذاك، قبل ثلاثين عاماً. لذا انطلقت جيرترود بيل إلى دلهي.
ورغم تقديره لها ولوالديها، إلا أن نائب الملك أكد لها أنه لا يريد ثورة عربية في بلاد الرافدين، ولا في أي مكان آخر في الشرق. وقال لها:” إن أهل القاهرة لا يفعلون إلا ما يحلو لهم، وتدخلهم في شؤوني غير مقبول، وخطتهم أضغاث أحلام“. عاش عشرات الملايين من المسلمين في الهند. وكان مرشدهم الروحي هو الإمبراطور العثماني والسلطان والخليفة وأمير المؤمنين والخليفة الرمزي للنبي. ماذا سيحدث لو دعموه؟ ماذا لو حدث قتال بين العرب والأتراك في محيط الأماكن المقدسة؟ كانت ستندلع حرب أهلية في الهند، يؤججها الألمان. القاهرة لا يمكن أن تفعل لهم أفضل من ذلك. “إن مسلمي الهند ليسوا عرباً يا آنسة بيل، وأنت تعلمين ذلك أكثر مني. إنهم لا يهتمون باحتمال قيام مملكة عربية بعد الحرب، وأنا أقول لك إنني لا أريدها“.
وكانت البصرة ومنشآت النفط في الخليج حيوية بالنسبة لبريطانيا العظمى، وكانت بغداد معقلاً للتجارة البريطانية لقرون. “والقاهرة تريد أن تتنازل عنها للعرب، لتلك القبائل البدائية؟ لقد أشرتِ بنفسك يا آنسة بيل إلى ذلك في العديد من تقاريرك. آخر دولة عربية تعود إلى العصور القديمة. وماذا عسانا أن نفعل لو أن الهنود استلهموا من العرب وطالبوا بدولة مستقلة خاصة بهم؟ إنني مندهش من تأييدكم لمثل هذا المشروع الخيالي. لقد أراد نائب الملك أن يضم بلاد ما بين النهرين إلى أملاكه ليقدمها مستعمرة لإمبراطوريته. لن يحتاج الإنجليز إلى العرب لهزيمة الأتراك. وانتهت الجلسة.
مكثت جيرترود بيل في الهند لعدة أسابيع. في دلهي الغارقة في الضباب، ثم في سيملا عند سفح جبال الهملايا التي كانت تشبه مدينة المنتجعات الإنجليزية، واستشارت الضباط العسكريين والمسؤولين المدنيين - وهم مجموعة رائعة. وعلى الرغم من استياء نائب الملك، فقد حاولت إقناعهم بمزايا المشروع الذي وضعته مع زملائها في القاهرة وأجرت مقابلة مع صحيفة “بايونير“ وهي الصحيفة اليومية الرائدة في المستعمرة. ولكن من دون جدوى. فقد ظل نائب الملك مصراً: في خضم حرب عالمية، لن يعبث بأمن شبه القارة الهندية التي كانت خزاناً للرجال والمواد الخام والثروة اللامتناهية على مر العصور، وهي القطع الرئيسية في رقعة الشطرنج الإمبراطورية التي جعلت من بريطانيا العظمى قوة عظمى أوروبية آسيوية غير مسبوقة. “كوني عاقلة يا آنسة بيل، وأخبري زملاءك أنه لا داعي للإصرار”. ولكن لأن نائب الملك كان يثق بها ولمصلحة التاج، قرر إرسالها إلى البصرة. وكانت ستعمل كهمزة وصل بين القاهرة ودلهي، وستكون قادرة على تحسين وسائل الاتصال بين المركزين المتنافسين، بقليل من اللباقة. كما طلب منها جمع معلومات شاملة عن قبائل بلاد ما بين النهرين. ولكنه لم يمنحها لقباً ولا منصباً رسمياً. كانت مهمتها في البصرة غير رسمية.
لذلك ارتاب الضباط العسكريون والسياسيون في أمرها عندما وصلت. ولما كانت الكارثة في الكوت قد اتضحت معالمها وكان لا بد من معاقبة المسؤولين عنها، فهل كانت جاسوسة نائب الملك؟ أم أنها جاءت من المكتب العربي في القاهرة لإثارة القلاقل بينهم؟
لم يكن السير بيرسي كوكس سعيداً بوجود الآنسة بيل في أمسية مارس - أذار الرطبة هذه أيضاً. كان بإمكانه الاستغناء عنها، فلديه ما يكفيه من المشاكل على جميع الأصعدة. لكنها تستطيع أن تؤنس زوجته الضجرة في البصرة. وقد كتب إليه نائب الملك ليأخذها على محمل الجد: “إنها امرأة ذكية للغاية بعقل رجل”.
*أوليفييه غيز هو روائي وناقد، وصحفي سابق، وهو مؤلف كتاب “اختفاء جوزيف منجيليه” (جرسيل، 2017، جائزة رينو). حصل على جائزة سيزار الألمانية لأفضل سيناريو عن فيلم “فريتز باور، بطل ألماني”. يعيش في روما.