علم تاريخ الفلسفة فن وطريقة التفكير

ثقافة 2024/10/10
...

  حازم رعد

سبق لنا وقد تناولنا في مقال سابق أهم الفروق بين الفلسفة كتاريخ والتفلسف‘ وفي وقتها ميزنا بين الاثنين بأمور عدة كان أهمها أن التفلسف هو عملية التفكير في حالة الصيرورة واستمرارية تناولها للأشياء والعالم بحثاً وحفراً معرفياً ونقداً حد الوصول إلى اجابات تنفتح على أخرى لموضوعة أو مشكلة ما، بينما الفلسفة في واحدة من استعمالات المفهوم تعني تاريخ الأفكار والنظريات وما انتجه الفلاسفة في هذا السياق.
أما في مقالنا الآن، فالأمر مختلف إذ الذي سنعرض له فكرة مختلفة مفادها أن تاريخ الفلسفة يندرج في حقل العلوم بمعنى أنه يتناول عرض ماضٍ وظروف ومناشئ الأفكار والسياق العام للمفاهيم والنظريات الفلسفية، ونلتزم بتعريف التفلسف ذاته أعلاه.
وعليه يمكن أن يقال عن تاريخ الفلسفة بأنه علم، ولكن الفلسفة ككيفية في التفكير ليست علم "فهذا الأخير يفترض اجابات جاهزة ومحددة" وليس في الفلسفة اجابات من هذا القبيل هي طريقة منفتحة على كل الاحتمالات التفسيرية وعلى القراءات المختلفة، ولذلك لا تخضع للأطر التي تخضع لها الافتراضات العلمية، وخاصة تلك التي تتعلق بالتجربة والاختبار المعملي الدقيق.
وهذه واحدة من عوامل قوة الفلسفة بشكل عام، فهي علم من جهة من خلال تاريخها وأفكارها ووقائعها، وهي فن وطريقة في التفكير لا تخضع للاعتبارات الاختزالية والأطر التي تحد الأشياء وتجعلها مغلقة.
لقد مر الفكر البشري "بحسب بعض الفلاسفة والمفكرين" باطوار أو لحظات عدة، وتكاد تكون هذه النظرة للفكر البشري هي السائدة في الأوساط العلمية.
إذ يعتقدون أن اللحظة المتقدمة للفكر البشري كانت لحظة إلهية أو اسطورية يفكر الإنسان من خلال عقله الاسطوري المشبع بالخرافات وسيطرة الالهة على عالم الوجود برمته، وعلى ضوء ذلك تتم عملية تفسير ظواهر الوجود والعالم وتعز هذه اللحظة في عرفهم لحظة فقيرة من ناحية مقبوليتها العلمية، بل هي ساذجة.
بينما اللحظة الثانية هي ذيوع التفكير الميتافيزيقي بمعنى أن الإنسان يفكر في الما وراء عالم الإنسان تاركاً الإنسان واهتماماته خلف ظهره لا يولي أي اعتبار. ورغم أن هذه اللحظة متقدمة على سابقتها إلا أنها لحظة لا تغني ولا تسمن، فما الجدوى من البحث في الميتافيزيقا وعالم الطبيعة مهمل ومصالح الناس استغني عنها في البحث الماورائي.
بينما اللحظة الثالثة والتي كتب لها أن تستمر وتختزل ما بقي من تاريخ للبشرية هي اللحظة العلمية التي انبجست فيها لحظة التجربة والاختبار المعملي، واعتماد الحس كمصدر أساسي للمعرفة والبحث العلمي واليقين التام وسوى ذلك كلام فارغ لا طائل منه على الاطلاق.
وما نلاحظه هو وجود خلط واضح في هذه الفكرة وفي مثيلاتها، إذ ليس هناك معيار واضح لتصنيف تلك اللحظات التاريخية بالنسبة للفكر البشري، فليست هناك حدود تعين الأزمنة والتواريخ، ولا ضوابط تنظم تلك العملية، بل إن التفكير البشري في مراحل نضجه تطوري. ويأخذ من كل المصادر وما يتدفق من التجارب والتأملات، ففي الوقت الذي ذاعت فيه الميتافيزيقا كان هناك التيار السفسطائي الذي لم يتقبل الأفكار الماورائية وانهمك مشتغلاً في فلسفة العمل والسياسة وما إلى ذلك.  
ناهيك على أن هذا التقسيم يصح كتاريخ سرد لعملية التحول والصيرورة للوعي الإنساني في الزمان "والعقل يتطور بفعل الدربة على التفكير والتأمل والتجربة وما إلى ذلك من عمليات عقلية" والغرض منه "التصنيف أو التقسيم" هو التحقيق للإجراء العلمي لا التحقق الفعلي أو أنه حقيقة في الواقع.. بمعنى أن تاريخ الفكر البشري قد حقب بهذا الشكل فذلك خلاف ما عليه عملية تطور العقل والوعي في العالم.
لأن ذلك يعتمد بقدر كبير على كيفية ذلك التقسيم لهذه الفترات وعلى ما تريد أن تعتبره الفلسفة الأخيرة في أي فترة "وها هنا نجد مجالاً وفيراً للاختيار المتعسف طبقاً للرغبات والتصورات السابقة" كما يقول فردريك كوبلستون.
إذن هي تصورات فردية قد لا تكون قائمة على أسس علمية أو براهين من سياق حركة الفكر البشري، وبالتالي لا تعبر عن تاريخ الفكر البشري واليه ولحظات تطوره فتوقع المتلقي في الوهم أو هي في حقيقتها قراءة ايديولوجية توظف تاريخ الفلسفة لتنفيذ أغراض ايديولوجية. وعليه يصح أن يكون تاريخ الفلسفة علماً بوصفه ارخنة تقوم على الملاحظات والتتبع واستجماع المعلومات وصياغته من دون بموضوعية وعلمية دون تحيز حتى تكون علماً موثوقاً يطمئن إليه ويكون مرجعاً للدارسين والمتخصصين، ويبقى للتفلسف رأي وهو غير رأي المؤرخ. إذ يعتمد الأول تحليل المعلومة وفحصها ونقدها واِبداء رأي ووجهة نظر في مقابلها وهذا هو الفارق بين تاريخ الفلسفة وبين التفلسف.