عصام عبد الإله: الفن واجهة الدول بتاريخها وتراثها الثقافي
علي لفتة سعيد
يقول هكذا وجدت نفسي أنجذب إلى الأقلام والأوراق، لأدوّن ما يدور في المخيلة، دون أن أعلم أن هذه البدايات هي المحرك الأقوى لصناعة فن داخلي، حيث أخذتني الاشياء التي تحيطني إلى عالم غريب كنت وأنا طفل أردد مع نفسي. ما هذه الخطوط التي تشكل استقامات مستقبلية.
إنه الفنان عصام عبدالإله صاحب المولود في كربلاء عام 1978 والحاصل على شهادة قسم الفنون التشكيلية من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ليصبح بعد رحلة طويلة ما بين الممارسة والدراسة عضوا في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين الرواد، عضو نقابة الفنانين العراقيين، أقام العديد من المعارض والفعاليات الفردية والمشتركة.
* ما الذي جاء بك إلى الفنّ؟ وهل هناك تأثير للبيئة على المخيلة وطريقة الرسم؟
-الجمال مفهوم فلسفي طبيعي فطري. تتجلى معانيه في خلق الله تبارك وتعالى بمكوناته الإنسانية والحيوانية والنباتية والطبيعية، وتتنوع معطياته حسب كل نوع، وتتفرع مجالاته حسب نزعات ونزوات كل خلقه، فالله عز وجل الخالق المبدع، سمى نفسه خالقاً لأنه خلق جميع هذه الأشياء من العدم وسمى نفسه مبدعاً لأنه أبدع في تجليات هذا الجمال. ومخيلتي كانت تأمل في هذا الجمال، وكانت أيام طفولتي في كربلاء. فأنا ابن بيئة إسلامية حضارتها عريقة، ولدت في كربلاء وشاهدت أجواء وطقوس كربلاء بكل أنواعها وتفاصيلها من العمارة الإسلامية والصور الموجودة على السجّاد القديم، والزخارف والخطوط الموجودة على الكاشي الكربلائي بألوانه البراقة، وزجاج النوافذ القديمة الملوّنة وجماليتها عندما تخترقها أشعة الشمس وتحوّلها إلى فسيفساء لوّنية والقباب الملوّنة والقماش الملوّن، وحتى التوابل الملونة، وورق الطائرة الورقية الملوّنة بألوانٍ فاقعة اللون، التي تسحرني وتستهويني وتجذبني كأنها حجر فيزيائي.
تأثرت بهذا الواقع التعبيري والتجريدي، وما زلت اتنقل بين هذه المدارس أو الأساليب الفنية، ولعي بأسلوب الكولاج أو فن التأصيل، نابع من أسلوب إسلامي، وهو التعشيق في السيراميك "الكاشي الكربلائي" وفي البناء والخشب والزجاج وأسلوب المنمنمات الإسلامية كلها كانت خير خزينٍ لمخيّلتي.
*أيّ المدارس الفنية التي تراها الاقرب لك؟ وهناك اختلاف بين هذه المدارس في الفنّ العراقي؟
- المدرسة أو الأسلوب الواقعي التعبيري، ولكن أنا أتنقل حسب الفكرة، لا أحب الثبات على أسلوب معيّنٍ، تارةً الواقعية، وتارةً التعبيرية، وتارةً التجريدية أو أية مدرسة فنية، لأن الثبات حسب رأيي المتواضع هو فخّ يقع به أغلب الفنانين، نعم هناك إتلافٌ واضحٌ في تقبّل نوع على نوع آخر من المدارس أو الاساليب التي يشتغل عليها الفنان العراقي، لأن أغلب الجمهور العراقي يميل إلى المدرسة أو الأسلوب الواقعي باعتباره أقرب إلى الصورة الفوتوغرافية، كونه لا يتطّلب جهدًا في التأمّل والتفكر والاستنتاج، فالفرد العراقي مثقّف وواعي، لكن التاريخ السياسي والاقتصادي أرهق مخيّلته بسبب الضغط الكبير.
إن الأسلوب الواقعي هو الأسهل إلى المتلقّي والأصعب إلى الفنان، لأنه لا يتقنه إلّا الفنان المتمرّس المتمكّن من أدواته بشكلٍ يفوق الكاميرا. لذا فإن تعدد المدارس أو الأساليب الفنية هو أمر يبعث على الإبداع، وهو أمرٌ جيد. وعن نفسي فأنا أؤمن وأعشق المذهب الانتقائي، كونه يبعث على التنوّع والتجدّد، لكن المشكلة في العراق أنه لا توجد هوية مكانية ولا زمانية على الأغلب، وليس الكل، عدا الأسلوب الواقعي، الذي كانت له هوية مكانية وزمانية. أي بمعنى أن بقية المدارس والأساليب التي اشتغل عليها الفنان العراقي لم تكن تحمل هوية عراقية عند الأغلب، تعبّر عن تراثٍ يمتدّ إلى آلاف السنين، من سومر إلى يومنا هذا، لأن أغلب مفرداتهم تحمل الطابع الغربي وخصوصًا في الأجيال الحديثة.
* أفكار لوحاتك تنطلق من البيئة العراقية.. وفي ألوّانك ثمة روح، هل اخذت على عاتقك أرشفة الواقع فنيا؟ وهل هناك علاقة بين اللون والفكرة.. أو اللون والطبيعة؟
- نعم أنا متأثّر بالواقع العراقي بشكلٍ عام، والكربلائي بشكلٍ خاص في أعمالي، أما الأرشفة فأنا في بداية الطريق. لكن بكل تأكيد ثمة علاقة قوية بين اللون والفكرة والطبيعة, حيث أن اللون لا يفارق عقلي وفكري ومخيلتي التي تقودني إلى التمازج بين اللون والمخلوقات الموجودة في هذا الكون الفسيح، مما تعمل على تحليل وتركيب الصور اللوّنية والذهنية، وتحويلها إلى مخلوقاتٍ تحاكي الواقع الحقيقي، لكن بروحٍ ولونٍ يحملان مضامين فكرية وثقافية واجتماعية، تسرد لنا ما يجول في مخيلتي من تفكيك وتحليل وتركيب في ايجاد صيغةٍ فنيةٍ فريدةٍ من نوعها، إي ولادة صورة ذهنيّة جديده تعمل على نقل المتلقّي إلى فضاءات جديدة.
* البعض يرى أن النقل الواقعي أو الرسم الانطباعي لم يعد ملائمًا لروح العصر، والمدارس تربّعت على طريقة أغلبية الفنانين، هل أخذت على عاتقك إعادة الروح إلى جذور هذا الفن.. حيث بدأ هكذا؟
- أنا من المنتمين إلى المدرسة أو الأسلوب الواقعي، والواقعي التعبيري. هذان الاسلوبان الواقعي والانطباعي، هما ركيزة أساسية في الفنّ التشكيلي ولا يمكن تجاوزهما، كونهما يحملان الأسس والقواعد الفنية الصحيحة في تدريب الفنان في كيفية إنشاء لوحة، تحمل كلّ عناصرها الفنية، ومن ثم تمهّد للفنان الانتقال إلى مدارس وأساليب أخرى. هناك أمثلة كثيرة من ضمنها فان كوخ، تعلّم الأسس الفنية الواقعية وبعدها دخل المعترك الفني في مواجهة الحياة الفنية مع زملائه من المدارس والأساليب الأخرى، وكان من ضمن المدرسة أو الأسلوب الانطباعي، مثال آخر هو بيكاسو تعلم الأسلوب الواقعي، ومن ثمّ دخله إلى الأسلوب التكعيبي.. ولهذا نرى إن المدرسة أو الأسلوب الواقعي بدأ بالعودة إلى الساحة الفنية بشكلٍ قويّ وملفتٍ للنظر، خصوصًا بعد دخول الفن الواقعي الصيني على الساحة الفنية العالمية.
* لماذا أتجه الكثير من الفنانين إلى المدارس الحديثة؟
- هناك عدّة أمور من ضمنها الفنان عندما يتشبع بالمدرسة او الاسلوب الواقعي سيغادر إلى مدارس وأساليب اخرى مع تطور فكر ومخيلة الفنان "ليس كل الفنانين يسلكون هذا الطريق الصعب والناجح لأنه طريق يحتاج إلى فكر ومخيلة خصبة ويحتاج إلى امكانية حقيقية وقوية في ترجمة هذه المخيلة الخصبة إلى أرض الواقع". وهناك فنانون لا يتمكنون من الرسم الواقعي لصعوبته كما قلت فيتجهون إلى المدارس أو الأساليب الحديثة وخاصة أسلوب الحداثة "الأسلوب التجريدي" بالمناسبة حتى في هذا الأسلوب لا يبدعون في انتاج لوحة تجريدية تحمل مضامين حقيقية، لأنهم لم يمشوا ضمن التسلسل العلمي للمدارس أو الأساليب الفنية فتحدث فجوه في العمل الفني مما ينعكس سلباً على العملية الإبداعية والتعليمية والفنية والثقافية. وهذا ما نجده الآن من تخبط بالساحة الفنية وهذه إحدى المشكلات التي تواجه الواقع الفني في العراق على الرغم من أن الاسلوب التجريدي أيضاً فيه صعوبة جداً عالية في الفكر والمخيلة والتحليل والتركيب يحمل مضامين فلسفية عميقة، لكن هذه توجد في لوحات الفنان الذي تمكنه من أدواته الأصلية في المدرسة أو الاسلوب الواقعي مرورًا بالأساليب الاخرى وصولًا إلى المدارس والأساليب الحديثة.
*كيف ترى واقع الفنّ التشكيليّ في العراق؟
الفن التشكيلي في العراق بما أنه من ضمن المنظومة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لابد من السيطرة عليه بأي شكل من الأشكال، لأن الفنّ هو واجهة الدول بتاريخه وتراثه الثقافي السيطرة المراد بها هنا، هو اعطاء المكان المناسب للرجل المناسب وإلا ما نشاهده الآن من تخبط في الحقل الفني من مؤسسات ومنظمات مجتمعية ينعكس سلبا على المشهد الفني في العراق. وخصوصاً أن الفنانين التشكيليين العراقيين الرواد، وخاصة فائق حسن، جواد سليم هما من وضعوا الأسس الفنية العلمية من خلال دراستهم الفن الحقيقي الواقعي على أصوله الأولى ومهدو للأجيال التي تأتي بعدهم، لكن ما نشاهده هناك فوضى وتخبط وعدم وجود مركزية في المنظومة الإدارية. الشيء المهم والايجابي في الفنّ التشكيلي أنه فنّ ينتجه فرد واحد أو أحيانًا مجموعة أفراد لكن الأغلب الأعم أنه نتاج شخص واحد عكس بعض الفنون. وهذه الخاصية مكنت الفنان التشكيلي أن يكون غير خاضع إلى منظومات إدارية مقيتة تحتكر وتحجم من فكر الفنان وتجعل منه "ريبورت آلي". هناك جيل من الفنانين الجدد سيكونون ذا مستقبل مشرق في الفنّ التشكيليّ في العراق والعالم استبشر بهم خيرًا لأنهم غير خاضعين، ولهم مطلق الحرية في نتاجاتهم الفنية بما تحمله من فكر ومضمون ومخيلة خصبة.