أثير الهاشمي
لم يستقرّ الأدب على جنس معين مستقل بذاتهِ، بل تعدّدت الأجناس الأدبية، وصارت مُتداخلة في ما بينها، بعدما كانت النقاوة الإجناسية خالصة في تشكيلاتها وتنوعها؛ لذلك يصعب على أيّ كاتب في الخلط بين جنسين أدبيين في آن واحد.
نعم يمكن تضمين مزايا جنس معين في جنسٍ أدبيّ آخر، لكن من دون المساس بملامحهِ وتجلياتهِ؛ وعلى وفق ذلك كان لكلّ جنس أدبي سماته الخاصة به، وشروطه المُفترضة عليه، لا يتعدّاها ولا ينقص منها شيئا.
إنّ محاولة الخلط بين الأجناس الأدبية، ومحاولة التداخل فيما بينها، جاء عن طريق الكُتّاب الأجانب، سواء في أوربا أو كُتّاب أمريكا، لكن بطريقة احترافية غير خاضعة للتداخل الذي يُضفي بدمج سمات كل جنس في آخر، بل تضمين جنس أدبي بملامح مُختصرة لجنس أدبي آخر؛ وهذا ما قرأناه في نصوص شكسبير ومولير وبيكيت.
تأكّدت في الآونة الأخيرة، الحاجة إلى الكتابة في شعرية النص، وبلوغ أقصى درجات الاقتصاد في اللغة، من خلال عدّة أسباب، أهمها:
- رغبة المتلقي أو القارئ في تشكيل لغوي بلاغي، كالتشبيه والاستعارة والرمز، أو الطريقة والأداء والأسلوب.
- تتجسّد الرغبة في التلقي من خلال شعرية النص.
- ضرورة الإيقاع المُتجدد الذي يغيب في السرد، ويظهر جليّاً في الشعرية.
- دخول التكنولوجيا الحديثة التي أشغلت العالم، فصار المتلقي غير صبور في قراءة الكتب الضخمة، أو السرد المترهل، بل راح يبحث عن الإيجاز في القول والمعنى.
حاول الكُتّاب أو الشعراء الخوض في تعدد الأجناس الأدبية، وأبرزها: الرواية الشعرية أو كما وردت تحت تسمية رالف فريدمان بالرواية الغنائية في كتابه ِ Lyrical novelist، أو القصة الشعرية بحسب جان إيف تادييه في كتابه Le recit postique .
أنتجت لنا الحداثة وما بعدها، أجناساً أدبية مركبة أو مُتداخلة، كالرواية الشعرية وهي ما يهمنا هنا، فضلاً عن أجناس أدبية أخرى كالرواية الممسرحة، مثل رواية الدمية، لكاتبها ديفيد مول هولاند، ورواية ممسرحة "كلّ شيء ممكن الحدوث يا صديقي" للكاتب العراقي الراحل مهدي علي الراضي الصادرة عن سلسلة كتاب الصباح الثقافي، وكذلك القصة الشعرية التي تمتاز باللغة الشعرية، مثل قصص الكاتب محمد خضير، كقصة المملكة السوداء، التي تهيمن فيها اللغة الشعرية.
تُعنى الرواية الشعرية الحديثة بخصائص وسمات، يجعلها تقترب من السرد الروائي في تشكيلاته، ولا يبتعد عن تجسيد الشعرية في تفصيلاتها البلاغية، وعلى وفق ذلك يتركب في النص الواحد شعرية مهيمنة، وسردية جليّة، تؤثر في المتلقي وتُغريه، سواء في اللفظ أم المعنى.
يحتاج القارئُ اليوم إلى رواية شعرية تأخذه إلى عوالم الصور البلاغية، عالم الإيجاز في القول، وعدم التبذير في اللغة، فالقارئ ما عاد يبحث عن روايات رتيبة، أو مطوّلة؛ بسبب صخب العالم وتطوره، فضلاً عن هيمنة الحداثة التي اشغلت العالم وأبعدته عن هدوء الحياة ورتابتها.
من أبرز الروايات الشعرية المطبوعة، رواية "مَنْ يسكب الهواء في رئة القمر"، للكاتب العراقي بشار عبد الله، إذ تُعد هذه الرواية من الروايات الشعرية المميزة، والتي تشكّلت بقرن (الرواية/ الشعر)، بوصفها جنساً أدبياً محكماً، بُنيت على وفق لغة عالية المستوى، تُشوّق القارئ إلى التواصل في القراءة، والتأثر باللغة؛ فضلاً عن العناية بالطريقة والأداء والأسلوب.
امتازت تلك الرواية بالصور البلاغية، كالاستعارة والتشبيه، والرمز، بدءاً من العنوان:
مَنْ/ السؤال
يسكب الهواء/ دلالة الحياة
رئة القمر/ استعارة لإعادة تشكيل الحياة.
إنّ ما يميز الكاتب بشار عبدالله قربه من روح شعرية النص، ومحاولة الابتعاد عن مباشرة اللغة؛ مما أدى إلى خلق الروح في اللغة المُتشكلة، وبثّ الحياة في ألفاظها؛ لإنتاج لغة مُتجددة دلالياً، ومتسعة رمزياً.
تميزت رواية "مَنْ يسكب الهواء في رئة القمر" بأسلوب سردي شعري، وأحيانا يكون الأسلوب شعرياً/ شعرياً، يرتكز على آلية مبدأ الاقتصاد؛ لتكثيف المضمون، فُبني النص على سمات مهمة أخفت من لغة السرد أحيانا، وأظهرت من لغة الشعر في أحيان أخرى، كالمفارقات الشعرية، والمغايرة في التشكيل، فضلاً عن الجوانب الفنية المهيمنة.
نحتاج إلى الكتابة بصورتها المُقتصدة والقاصدة في اللغة، كرواية "مَنْ يسكب الهواء في رئة القمر"، لا النصوص التي لا تُغني ألفاظها مضموناً، ولا تُضفيها طريقة أو أداءً؛ كذلك نحتاج إلى قارئ يُعيد إنتاج النص من جديد، بمعنى أن يكون مؤلفاً آخر للنص، يسعى إلى الفعل في طريقة القراءة، لا الجمود في مستوى التلقي.