عباس منعثر
يضبط الاستهلالُ نغمة العمل ويحددُ مساراتِه. هو البوابة، ما بعد العنوان، التي يدخلُ منها القارئ إلى عالمِ النصّ حالما يفتحُ "جانوس" عوالمَ الماضي والمستقبل، بوجهيهِ اللذين ينظران إلى الاتجاهينِ المتعاكسين في الوقت نفسه. الاستهلالُ ينشئُ إطاراً أولياً لتوقعاتِ القرّاءِ ويحدد مزاج النصّ، سواء كان متفائلاً أو متشائماً، هادئاً أو صاخباً، طبقاً إلى منظورِ المؤلفِ والمقولةِ الكليةِ للعملِ الأدبيّ.
عن طريقِ الاستهلال، يُثارُ الاهتمام. قد يختارُ النصُّ أن يستهلَّ بواحدٍ من أهمّ الأحداثِ لديه، وربما الأشدّ أهمَّية على الإطلاق، لكي يستحثَّ الفضول. يمكن أن يكونَ الحدثُ الاستهلالي صادماً مليئاً بالتوترِ، يُظهِرُ رأسَ الخيطِ وعليك أن تتبعَه إلى آخرِه، ويمكنُ أن يحتفظَ المؤلفُ بالحدثِ الرئيسي لوقتٍ آخرَ لكنّهُ يبدأ بمشكلةٍ أو وضعيةٍ غريبةٍ تستفزّ الريبةَ والحسّ البوليسي، أو يُباشر مكشوفاً كي يتقرّبَ من القارئ، أو يلجأ إلى مجابهةٍ مفعمةٍ بالانفعالاتِ المضطرمة.
مهما كانت البدايات، يتعيّنُ أن يكونَ لها مغزى. قد يؤدي تركيزُ الكاتبِ على الصراع، مثلاً، إلى تصاعدِ الفعلِ بشكلٍ أشدَّ في متوالياتِ المسرحية، بينما قد يقترحُ المدخلُ الهادئُ سعيًا للتواؤمِ مع المجتمع. لا نُكرانَ أن القصدَ ما وراءَ الاستهلالِ هو اجتهادٌ فرديٌّ، فربما يميلُ إليهِ مؤلفٌ ولا يميلُ إليه آخر، وكلُّ ميلٍ يُفسّرُ بطريقةٍ مختلفة، غير أن البداياتِ لا ينبغي أن تكونَ اعتباطيةً، بل تسيرُ على خُطى ديوجين وهو يشقُّ طريقَهُ في الغابةِ المظلمة. ففي مسرحية "موت بائع متجول" لآرثر ميلر تُسمعُ موسيقى توحي بأحراشٍ أو غابة. بعدَ ذلك، نكتشفُ أن مكانَ الأحداثِ هو بيتٌ متهاوٍ ينسحقُ تحتَ العماراتِ الشاهقة، وكأنهُ صورةٌ من صورِ انهيارِ الحلمِ الأميركيّ. هذه البدايةُ جوهريةً للنصّ المسرحيّ وتكاد تلّمحُ إلى فكرتِهِ المركزيةِ بطريقةٍ شعريةٍ ومفاجئة. من سماتِ بداياتٍ كهذه أنها تطرحُ تفسيراتٍ يختارُ القارئُ بينَها حسبَ تنقيبهِ وتقصيهِ في المستجداتِ الدرامية. لا شيء مجانياً في نصوصٍ كهذه، فالقارئ بسببِ العمقِ والقصدية، يرجعُ إلى الاستهلالِ مستدركاً ما فاته من أسرارٍ في زحمةِ التفاصيل.
في الغالب، تُبطِنُ البداياتُ مستويينِ أساسيين: الأول مرجعيات النصِّ الفلسفية، والثاني بنيته الفنية التي يستندُ إليها. فالاستهلالُ، واقعياً، يعمدُ إلى بدءِ الأحداثِ بتركيبةٍ تعتمدُ على مبدأ السببيةِ بحيث تتصلُ المقدماتُ بالنتائجِ المترتبةِ عليها. نكونُ، في هذا السياق، أمامَ استهلالٍ معتادٍ يقدّمُ للقارئ مدخلاً مألوفاً يسمحُ له بفهمِ العلاقاتِ المتداخلةِ في فضاءِ النصِّ منذ البداية. لخلقِ التواصلِ، ينخرطُ القارئُ مباشرةً في حالةٍ مشبعةٍ بالتصاعدِ الدرامي، حيث تؤدي المفاجآتُ إلى إثارةِ الفضولِ وتفتحُ البابَ أمامَ نموٍّ حاذقٍ في الحبكة.
أما الاستهلالُ بهيئةٍ رمزيةٍ فيعتمدُ على استخدامِ الرموزِ والاستعاراتِ وتصويرِ الحياةِ كمجازٍ مفتوحٍ للتأملِ والإدراك. هذا النوعُ من الاستهلالِ يُضفي بُعداً تجريبياً على النصّ المسرحيّ، مشجعاً القارئَ على استنطاقِ وتأويلِ ما وراءَ السطورِ لاستكشافِ المعاني الخفية. إنهُ غالباً ما يتسمُ بالغموضِ، استناداً إلى فكرةِ أن الشكّ أقربُ طريقٍ يوصلُ إلى الحقيقة، وفيه تحفيزٌ على التفكيرِ النقديّ والتساؤلِ عن طبيعةِ الواقعِ والمعرفة.
في الاستهلالِ الحكائيِّ - سواء بدأَ بمونولوجٍ يعمّقُ النظرةَ الفرديةَ والانغماسَ في العالمِ الداخليّ للشخصية، أو بالحركةِ التي تحفّزُ على المراقبةِ وتشجيعِ التأويل، أو بالرقصِ والموسيقى والغناءِ كإشارةٍ إلى الفنِّ كواسطةٍ لتأطيرِ المعنى- يسعى السردُ إلى تصويرِ الحياةِ وكأنها تُروى وفقَ خطةٍ قصصيةٍ محكمة. هنا، يتماهى القارئُ مع الشخصيةِ بلا وسيطٍ، وينغمسُ في عالمِها الداخليّ، موغلاً بلذةِ التلصصِ والمراقبةِ والمماثلة.
بصورةٍ عامة، وسواء كان مدخلاً للنصِّ بمجملِهِ أو خاصاً بكلِّ مشهدٍ على حِدة، بوسعِ الاستهلالِ أن يكونَ (متمرداً/ رافضاً/ شَكِساً/ نقدياً/ ضديّاً) أو (محافظاً/ خاضعاً/ مذعناً/ مستكيناً/ مطيعاً) أو (وسطيّاً/ معتدلاً/ ناعماً/ رقيقاً/ مداهناً)، تبعاً للسقفِ النظريّ الواعيّ أو غيرِ الواعيّ لدى الكاتب. هذه التصنيفاتِ ليست قواعدَ صارمة، إلا أنها تضيفُ أبعاداً للاستهلالِ تتجاوزُ دورَهُ المعهودَ كمدخلٍ تعريفيّ. إجمالاً، تضطلعُ البداياتُ بدورِ البوصلةِ التي توّجهُ النصَّ وتستشرفُ ما سيأتي، دون أن تفضحَ جميعَ أسرارِه.
لكن للمفارقة، ما يحصلُ في كثيرٍ من النصوصِ المسرحيةِ أن تُستَخدَمَ البداياتُ كقنطرةٍ للعبورِ، ولا تحملُ أغواراً سحيقةً أو إشاراتٍ مكتنزة. هذا الاستهلالُ واطئُ السقفِ يستعجلُ الوصولَ إلى الحبكةِ والأحداثِ والشخصيات، ولا يتبلورُ كرحمٍ يستقبلُ جنينَ العالمِ الدراميّ. المشكلةُ هي عدمُ القدرةِ على نسجِ خيوطٍ متشابكةٍ من الفكرِ والشعور للعملِ الفنيّ ككلّ. على العكس، يَعرِفُ الكاتبُ الماهرُ أن كلَّ كلمةٍ وكلَّ حدثٍ في بدايةِ النصّ يجبُ أن يحملَ طاقةً كامنةً تُستخدمُ لاحقاً في مكانٍ ما كي تدفعَ الحبكةَ إلى الأمامِ، من غيرِ أن تُهمِلَ الأسئلةَ الكبرى التي يُمحصُها النصُّ المسرحي.
وعلى الرغمِ من أن العديدَ من النصوصِ التقليديةِ والمعاصرةِ لا تستغلُّ الاستهلال على أكملِ وجه؛ فإنّهُ يظلُّ أداةً غنيةً بالاحتمالاتِ الهائلة. بالطبع، يتباينُ توظيفُهُ تبعاً لاختلافِ أساليبِ المؤلفين ومستوياتِهم؛ لكنّ الخللَ لا يكشفُ إلا عن ميولٍ فرديةٍ تختبئُ خلفَ ستائرِ التشابهِ والاعتياد. ما يحتاجُهُ النصُّ المسرحيّ هو أن يُعطى وقتاً أكبرَ من التأملِ ويُسمحَ لجانوس، إلهِ البواباتِ، منذُ البدء، أن يواصلَ النظرَ في الاتجاهينِ المتعاكسينِ على الدّوام.