سرديّات رسائل الطرف الواحد
عبد علي حسن
في البدء كانت الإشارة، ثم الهمهمة، ثم الأصوات والحروف لتشكل البنية الأساسية للغة، ثم الاختراع الأكبر للبشرية فكانت الكتابة، ولئن كان الاتصال المباشر عبر الوسائط، التي ذكرت فإن الوضع البشري اللاحق الذي حتم على الإنسان أن يغادر مكانه الأول بفعل أسباب كثيرة منها طلب سبل العيش أو التجارة أو طلب العلم وسواها، فإنه ظل بحاجة إلى بعث رسائل الى من يهمه أمره فكانت الشفاهية أولاً، ثم كتابتها وتوصيلها بالوسائل التي تطورت تبعاً لتطور حياة الإنسان والتمكن من تحسين وسائط تواصله مع الآخر عبر اختراع وسائل نقل تلك الرسائل .
لقد حفل النثر العربي القديم بهذا النشاط السردي، الذي أبدع به الكتاب العرب بدءاً بالجاحظ ورسائله في مختلف الاغراض الأدبية منها والحياتية، ورسائل عبد الحميد الكاتب والصاحب بن عباد والقاضي الفاضل وابن العميد وسواهم، ولعل من أهم تلك الرسائل هي الكتب التي توجهت لحرفة الكتابة وبيان أصولها وقواعدها مثل كتاب "ادب الكاتب" لابن قتيبة ت 276 ه ، و"الكتاب" لعبد الحميد الكاتب الذي وضع فيه ضوابط الكتابة والواجبات الخلقية والثقافية للكاتب وما ينبغي عليه إعداده وما ينبغي الابتعاد عنه، ويلاحظ أن جميع هذه الكتب قد اتخذت صيغة الرسائل المرسلة من طرف واحد/ الكاتب لمرسل إليه مجهول وهو المعني بما سيذهب إليه الكاتب من معرفة بفن وحرفة الكتابة، كما أن هنالك رسائل أخرى ترسل من طرف واحد لا ينتظر منها المرسل ردّاً كرسائل الاعتذار ورسائل الحب التي تنقل شكوى الغرام والهيام والشوق .
وفي الأدب الرسالي العالمي يتجلى هذا النوع من الرسائل كنموذج في كتاب "رسائل الى شاعر شاب" للشاعر النمساوي الألماني ريلكه، وكتاب "رسائل الى روائي شاب" للروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا بترجمة صالح علماني، الذي اخترناه أنموذجا لهذا النوع من الرسائل، إذ يتّبع يوسا اسلوب الرسائل المفترضة التي يتخيل فيها وجود طرف آخر مجهول لتكون مساحة مفتوحة يبث عبرها خبرته ليكتب عن الرواية بوصفها فناً أدبياً، فهو لا ينتظر ردّاً على رسائله تلك الموجهة للروائيين الشباب، فقد وزّع محاور موقفه من الرواية على 12 اثنتي عشرة رسالة ضمّنها كل ما يتعلق بالرواية من تقنيات واختيار الموضوع وبناء الأحداث والشخصيات وسواها، وقد اخترنا من هذه الرسائل ما تشكل الحجر الأساس للتجربة الروائية، كالاهتمام بتعزيز الميل الأدبي وجعل الكتابة همّاً ينشغل به الوجود الحياتي للروائي، وكذلك الرسالة المتعلقة بكيفية صياغة الرواية من التجارب الحياتية، مع تأكيدنا على أهمية الرسائل الأخرى التي اغتنت بالانثيال المعرفي الذي انفتح على كل ما يتعلق بصنعة الرواية، وبذلك اتخذت هذه الرسائل صفة النصح ومدّ الشباب بخبرة كتابة الرواية وآفاق تأثيرها في السياق الإجتماعي، كما أن هذه الرسائل تمظهرت على شكل سيرة إبداعية للكاتب، بدءاً من ولادة شغفه بالقراءة واختبار قدرته لكتابة رواية ناجحة ومؤثرة.
ففي الرسالة الأولى التي وضع عنواناً لها (قطع مكافئ للدودة الوحيدة) يبدأ من الخطوات الأولى لسيرته الإبداعية، إذ يطرح رأيه حول غاية كتابة الرواية وهدفها وما يمكن أن يتحصل للروائي من كتابة الرواية (فالكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة هي افضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له، لأن الكتابة في نظره هي افضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، التي يمكن له أن يحققها من خلال ما يكتبه) ففي النص السالف نصيحة للشاب الروائي المفترض/ المتخيل ليضع خطواته الأولى على الطريق الصحيح بثبات تكرّسه النزعة المتجردة عن أي غرض سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، ليبقى الغرض الوحيد هو الكتابة ذاتها بعدّها الهدف الأسمى، ولا يمكن للكاتب أن يبلغ هذه المرتبة، إلّا حين يكون (الميل إلى الأدب) مستغرقاً وجود الكاتب وحياته بكل تفاصيلها، ويضرب (يوسا) مثلاً غريباً في محاولة منه لتقريب فكرة أن يعيش الكاتب من أجل مشروعه وتنميته وتطويره، فهو يرى في الدودة الوحيدة التي تستوطن جسد الإنسان وتعتاش على تغذيته وتدفعه الى مزيد من الأطعمة والأشربة ليس لأنه يحتاجها وإنما من أجل تغذية الدودة واسكات جوعها النهم والمتواصل، وهكذا يتحول الأدب إلى نشاط دائم، إلى شيء يشغل الوجود، ويستغرق الساعات التي يكرسها الكاتب للكتابة ذلك "أن الميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب بصورة لا تزيد ولا تنقص عن تغذي الدودة الوحيدة المتطاولة على الأجساد التي تقتحمها" ليخلص إلى طرح رأي مهم هو أن من يتبنى الميل الأدبي لايكتب ليعيش وانما يعيش ليكتب، ويتبنى يوسا بهذا الصدد مقولة لفلوبير مفادها بأن الكتابة هي طريقة في الحياة، وفي الرسالة الثانية التي حملت عنوان (الكاتوبليباس) وهو مخلوق مستحيل يلتهم نفسه بنفسه، بادئاً بقدميه، وقد استخدمه فلوبير في روايته "اغواء القديس انطوان"، ففي هذه الرسالة يطرح (يوسا) أفكاراً جوهرية حول العلاقة بين الروائي والواقع وتجاربه الحياتية على شكل أجوبة لأسئلة مفترضة من قبل الشاب الروائي (أن القضية التي تسألني عنها كذلك، من أين تخرج القصص التي تقصّها الروايات؟ وكيف تخطر الموضوعات للروائيين؟ ما زالت تؤرقني) فيختار يوسا مثلاً وهو مخلوق الكاتوبليباس حيث يقوم الروائي بالبحث والنبش بتجاربه الحياتية الخاصة بحثاً عن مرتكزات لكي يبتكر قصصاً ، ليس من أجل إعادة صياغة وإنتاج الشخصيات والوقائع والأحداث، وانما ليجد في ما استقر في ذاكرته من أشخاص وأحداث كونت تجاربه الحياتية لتكون حافزاً ووقوداً للإرادة التي يحتاجها، لكي يتوّج بنجاح تلك العملية الشاقة والطويلة (صياغة الرواية)، إذ إن تلك التجارب الحياتية تترك أثراً في تكوين مخياله الشخصي فتخزن في وعيه الباطني فتحاصره وتسعى إلى التحرر عبر إعادة إنتاجها وتحويلها إلى قصص، ويطرح يوساً مثالاً لهذه العملية، فيشير إلى أن اغلب الكتاب يؤكدون حقيقة محاصرة الحدث الراكز في الذاكرة (لقد لاحقتني هذه القصة، هذه الشخصية، هذا الموقف، هذه الحكاية، تسلطت على عقلي كمطلب آتٍ من أعمق ما هو حميم في شخصيتي، وكان عليَّ أن أكتبها لأتحرر منها) لذا فإن الروائي لا يختار موضوعاته بل هي التي تختاره، لأنه يكتب عن شؤون بعينها قد حدثت له، وفي الرسالة الثالثة (القدرة على الإقناع) يعالج يوسا القضية المهمة في السرد الروائي تلك هي قضية شكل الرواية بعدّها الأمر المحسوس في العمل الروائي، فالرواية تتجسد وتتخذ وضعها الملموس عبر شكلها، إذ إن موضوع الرواية لا يمكن فصله عن الطريقة التي روي بها، وإذا ما حصل هذا الفصل، فإنه سيكون مصداقاً للرواية الرديئة، أما الروايات العظيمة التي ابدعتها مواهب على مدى قرنين أو أكثر فإن سرّ نجاحها هو تلك الوحدة بين المحتوى والشكل/ الموضوع والأسلوب والنسق السردي، وبفضل فاعلية شكلها فقد تزودت بقوة إقناع لا يقاوم، ف(من أجل تزويد رواية القدرة على الإقناع فلا بد من سرد قصتها بطريقة تستفيد الى أقصى الحدود من المعايشات المضمرة في الحكاية وشخصياتها، وتتمكن من أن تنقل الى القارئ وهماً باستقلاليتها عن الواقع الواقعي الذي يتواجد فيه من يقرؤها، وأنها تتضمن في ذاتها كل ما تحتاج إليه لكي تحيا)، وعندئذ تتمكن الرواية من اغواء قارئيها وجعلهم يصدقون ما يروى لهم، ولتوضيح فكرته هذه يذهب (يوسا) إلى ضرب مثل في طريقة بريخت لكسر (الوهم) بأن ما يشاهده المتفرج على مسرحه هو ليس الحياة وإنما هو مسرح، كذبة، استعراض. وعليه - مع ذلك - أن يستخلص منه نتائج وتعاليم تقوده إلى العمل، من أجل تغيير الحياة، ويكثف (يوسا) وجهة نظره كخلاصة لقدرة الرواية على الإقناع بقوله (قوة الإقناع في رواية تسعى إلى عكس ذلك بالضبط، تضييق المسافة الفاصلة بين الوهم والواقع، وجعل القارئ يمحو الحدود بينهما، يعيش الكذبة كما لو أنها الحقيقة الأكثر ثباتاً ورسوخاً، وكما لو أن ذلك الوهم هو الوصف الأشد تماسكاً ومتانة للواقع .
لقد تمكن (يوسا) الروائي من توصيل وجهات نظره ورؤيته لماهية الرواية كفن سردي عبر صيغة رسائل يرسلها لروائي شاب مجهول لا ينتظر رداً منه سوى استيعاب الدروس والرؤى التي بثّها بين سطور رسائله الاثنتي عشرة، وبأسلوب سردي مشوّق استخدم فيه ضمير المخاطب تعبيراً عن مرسل إليه افتراضياً، كما لو أن هذا المرسل إليه موجود فعلاً ويتخاطب معه وفق صيغ مألوفة بين المرسل والمرسل إليه مثل (صديقي العزيز.. استأثرت رسالتك اشجاني لأنني رأيت من خلالها نفسي وأنا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمري) كما في مفتتح الرسالة الأولى التي ينهيها بالجملة الآتية (ولكن هذه الرسالة طالت يا صديقي أكثر مما تستدعي الحال... تحياتي) وهكذا يخلق يوسا بأسلوبه الساحر فواعل التشويق لمتابعة رسائله المعرفية عبر الصيغ الخطابية المفترضة لروائي شاب ينوي أن يدخل عالم كتابة الرواية هذا الفن الصعب الذي تمكن فيه وعبره ضخّ المزيد من الأفكار ووجهات النظر، التي تمدّ المتلقي بخطابات جمالية ومعرفية أغنت مبررات الوجود الإنساني .