السجن الكوري

الرياضة 2024/10/14
...

علي رياح

قبل عشرين سنة من الآن، كنا بعثة المنتخب العراقي في العاصمة الكوريَّة (سول) نتجوّل بين أبرز معالم المدينة الأسطورية. وفي زحمة الناس والمعروضات على أرصفة الشوارع، لم نتنبّه أنا وحسين سعيد وعدنان حمد والمدرب الألماني ستانج وعدد من اللاعبين إلى أننا تفرّقنا إلى جماعات صغيرة، ولهذا فإننا لم نكن وقتها نعرف الطريق إلى فندق (تاورز) حيث نقيم.. واقترح الزميل الكوري لي بارك الذي كان يصحب مجموعتنا أن نلتقي في أهمّ نقطة دالّة يعرفها كل سَـوّاقي التاكسي في المدينة وقد كانت محطة (مركز) الشرطة.
وحين مضينا إلى غايتنا أنا وحسين سعيد وعدنان حمد وبعض اللاعبين، لم نجد في المكان المحدد ما يدلّ على أنَّ هناك مركزاً للشرطة.. ويبدو أنَّ الصحفي الكوري التقط دهشتنا وانسراح أفكارنا ربما لأنه يعرف أننا ننتمي إلى شعوب الشرق الأوسط، فقال باسماً: هذا هو مقصدنا.. هنا تدير الشرطة كل شأن أمني يهمّ الناس في هذه المنطقة.
وأُقسم بالله العظيم إنني أصبت بالدوار حين عرفت أنَّ هذا (الدكان) الذي يربض عند مفترق طريقين هو مركز الشرطة.. إنه مكان أشبه بالمحل الصغير لا تزيد أبعاده على أربعة أمتار في سبعة، وفي الواجهة علـّق الكوريون فاترينة صغيرة تنطوي على صور (مجرمين) لم يرتكبوا إلا أخطاء عابرة تسمى جرائم ظلماً وعدواناً وبهتاناً بالمقارنة مع ما يبتكره عتاة المجرمين في كثير من بلدان الدنيا.
ضحكنا أنا وحسين سعيد ومجموعة اللاعبين ملء أشداقنا، لكنه كان (ضحكاً كالبكاء) كما يقول المتنبي.. ثم أطلقنا العنان لتساؤلاتنا:
-أين يذهب الكوريون بمجرميهم؟ هل يتركونهم في العراء نهباً للبرد الزمهرير والمطر الذي يغرق مدناً بأكملها؟  أين تلك الغلظة والشفاه المزمومة والأجبن المقطبة والجباه التي لا يخدشها سيف عنترة، وهو ما يميز، بلا فخر، الشرطة في كثير من بقاع الدنيا؟
لم يدعني الزميل الصحفي الكوري الدمث نهباً لمشاعري وقال لي: أقترح عليك الدخول إلى المركز كي تتثبّت من أننا لسنا في حاجة إلى إشغال مساحة مترامية الأطراف لنجعل منها موئلاً مؤقتاً لمجرمين لا تجد الكثير منهم في وقت واحد.. إنَّ الناس يأتون إلى هنا فرادى لأننا لا نجد الإجرام وقد ضرب بأطنابه بلادنا!! منذ ذلك اليوم ، وأنا أسأل الزميل بارك، كلما تحاورنا عبر التشات، عمّا إذا كان المحل الصغير الذي يسمونه مركزاً للشرطة في مكانه ينتظر من (يسكنه) أم أنهم انتقلوا بمسدساتهم غير المستعملة و(كلبشاتهم) التي تشبه لعب الأطفال إلى (مكان) يليق بالشرطة! كان بارك يجد حيرة في الإجابة عن تساؤلاتي، ولم يفهم في النهاية عبارة رددتها بعد أن ابتدعها سمير غانم في واحدة من أشهر (أفيهاته): التورتة في خدمة الشعب! والتورتة لدى الأشقاء المصريين هي (الكيكة) عندنا! منطقي ألا يفهم الصحفي الكوري جملتي الأخيرة، تماماً مثل عجزه عن فهم سؤالي المزمن عن (بقالتهم).. عفواً سجنهم الضئيل الذي يتوسط الفنادق الفارهة.