قصصٌ رومانيَّة.. حكايات عن عدم الانتماء

ثقافة 2024/10/16
...

ترجمة: جودت جالي


جومبا لاهيري هي كاتبة أميركيَّة بنغاليَّة الأصل حصلت على جائزة بوليتزر عن أول كتاب لها سنة 1999 وهو مجموعة قصصيَّة عنوانها (مترجم الأمراض)، أما روايتها (السميّ) 2003 فقد جرى تحويلها الى فيلم بالعنوان نفسه. كانت لغتها الثانية أثناء دراستها الجامعيَّة هي الإيطاليَّة وقد عكفت على تقويتها بمتابعة القراءات والدراسة وقضت فترة في إيطاليا للمعايشة وزيادة الاطلاع والتعرف ثقافيًا الى أنْ رأت في نفسها القدرة على الكتابة بالإيطاليَّة والترجمة منها وإليها.

هذه المجموعة القصصيَّة الأخيرة لجومبا لاهيري (قصص رومانيَّة) هي صورة ملحَّة ومثيرة للعواطف عن روما بتسع قصص تقدم شخصيات إيطاليَّة وأجنبيَّة تسكن المدينة من دون الشعور بأنها في بلدها، وكما يلاحظ أحدهم فإنَّ “روما تتنقل ما بين الجنة والنار”. وكما في كتابها السابق فإنَّ لاهيري كتبت هذه المجموعة بالإيطاليَّة ثم ترجمت الى الإنكليزيَّة ستاً من القصص وعهدت بترجمة الثلاث الباقيات الى المحرر تود بورتونوفيتش، ترجمة طيعة ممتازة، عباراتها تومض وتتدفق مضيفة الى حيويَّة وراهنيَّة الحكايات عن الحزن الدفين، الانتماء واللا انتماء، معنى الوطن وثمن النفي.

إنَّ الشخصيات، مجهولة الأسماء دائماً، مرضى ويحنون الى الوطن. إنهم مهمومون بخصوص أجسادهم وذكرياتهم عن أوطانهم الماضية وحياتهم الماضية. قد يتذكر أحدهم أحياناً أحداً من أهله أو صديقاً أو طفلاً، أو يتفجع عليه، ودائماً يكون الشعور بالذنب موجوداً بدرجة ما. 

في قصة (الموكب) أثناء إقامة احتفالات عيد النواطري يصل زوجان الى روما للاحتفال بعيد الميلاد الخمسين للزوجة، ونعلم من القصة بأنَّ هذه المدينة لها مكانة خاصة في قلبها، حيث درست سنة عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها وحيث وقعت في الحب لأول مرة. لكن هدوء النفس سيفارقها مراراً خلال إقامتها وتتراكم تفاصيل مقلقة، ضوء النهار الذي يروع “مثل صعقة كهربائيَّة” أو ثريا توشك على السقوط والتحطم أو غرفة لا يمكن قفل بابها، وغرفة أخرى تُذكِّر بعمليَّة جراحيَّة وابن ميت.

تكتب لاهيري عن روما بولعٍ وجمالٍ معتنى به فهي “روعة” ومع ذلك فهي “تحت الحصار” و”في انحدار”. تخبرنا بأن الجدران وعلامات الشوارع مشبعة بالرهاب من الاجانب والافتراء، فالأجانب أولئك الذين يختلفون في اللكنة والتاريخ واللون والتزيي يعاملون بازدراء وريبة ويخاطبون ببرود، إنهم أجانب، أناس بملامح وجوه غير اعتياديَّة، أناس من قارات أخرى. لهؤلاء كرست لاهيري العديد من هذه القصص.

في قصة (الحد) تنتقل فتاة وأسرتها الى الضاحية خارج روما بعد تعرض أبيها لهجوم عنصري في المدينة. يتملكها اهتمامٌ شديدٌ بجماعة يقيمون سفراتٍ في العطل يسكنون الدار المجاورة، وهنا نتعرف على طريقتها في التعامل مع الوحدة ومع أبٍ تغير الى الأبد بآثار الاعتداء، تقول “إنه يحرف كلماته كما لو كان رجلاً عجوزاً. إنَّه خجل من الابتسام لأنَّه فقد سناً من أسنانه. أنا وأمي نتفهم حالته لكنَّ الآخرين لا يتفهمونها. إنهم يرون بأنه ما دام أجنبياً فإنه لا يتكلم اللغة، وأحياناً حتى يظنونه أخرس”.

في قصة (التسليم) تسير فتاة ملونة عائدة برزمة من مكتب البريد لصالح مستخدِمها وضربها رجل يركب دراجة عمداً قائلاً لها “اذهبي اغسلي ساقيك القذرتين” قبل أنْ ينطلق بعيداً. إنَّ كلمات مثل “قذر” و”قبيح” مفعمة بالروح العنصريَّة، ونقرأ قصتين تلقيان الضوء على قساوة أولاد صغار ولا مبالاة البالغين بها. في قصة (بيت جيد الإضاءة) حيث يسكن لاجئ حربٍ يحاول التماسك أمام عدوانيَّة متفقٍ عليها من قبل جيرانه، وعند نهاية القصة يكون هو وأسرته قد أخرجوا من شقتهم، ويجد نفسه ينام في الشوارع وتعود زوجته الى بلدهما مع الأطفال.

لم تكن لاهيري سياسيَّة أبداً في كتاباتها، ومع ذلك، عبر هذه الصفحات نشعر بغضبٍ هادئٍ لمؤلفة قد أرعبتها وثبطتها حال المهاجرين في إيطاليا فوظفت قلمها سياسياً. وقد يهيئ القارئ ذهنياً الاقتباسان اللذان وضعتهما في صدر مجموعتها للتفاعل مع الخطاب السياسي الماثل بين سطور القصص أو المباشر أحياناً، الأول لتيتوس ليفيوس عن كتابه (تاريخ روما) يقول: “في هذه الأثناء كانت المدينة تتسع طولاً وعرضاً، ويبنون أسواراً ويجهدون في الحصول على أرضٍ جديدة. بنوا أسواراً آملين في سكان يكونون، ذات يوم، أعظم من الناس الموجودين فيها في ذلك الوقت”.

والاقتباس الثاني من (التحولات) لأوفيد يقول: “غير أنَّ بوابات جانوس المنفرجة كانت لا تزال غير مقفلة، والتيار لم يسد الطريق”.

المقصود بجانوس هو معبد جانوس ذو الوجهين إله الحدود والبدايات الذي يفتح في وقت الحرب ويغلق وقت السلم.

إنَّ خطاب اليمين الإيطالي المتطرف المعادي للمهاجرين وتعصب أهل البلد وغرق القوارب في البحر الأبيض المتوسط وظاهرة كره المسلمين والأفارقة الممارسة يومياً، هي هنا كلها، متناولة بصدقٍ لا تشوبه شائبة.

في قصة (دانتي اليجيري) تنظر الراوية، البالغة خمسين عاماً أو نحو ذلك، الى ماضي حياتها فتخبرنا بأنَّ “بعض القصص يصعب على المرء حملها، حالها حال أمورٍ عشناها أو لاحظناها أو تحسسناها أو استكشفناها باهتمامٍ شديدٍ”. لا أرى طريقة أفضل من هذه لوصف القصص المجموعة هنا. إنها تحمل، كالحياة بالضبط، عضة الواقع المؤلمة.


المقال عن: ملحق التايمز الأدبي 

 TLS, Roman Stories, Jhumba Lahiri