العصر الذهبي للأغنية البغداديَّة

ثقافة 2024/10/16
...

سامر المشعل

شهدت بغداد في عقد الخمسينيات من القرن الماضي مدنية عالية، تجلت في السلوك المتحضر، الذي يتسم بذوق عالٍ في أروقة الفن والساحة الغنائية من خلال التقاليد الفنية المتبعة، وكانت بغداد آنذاك تشكل حالة من الإبهار بالمستوى الحضاري لكل قادم إليها سواء من المحافظات أو الدول العربية. وفي أحد اللقاءات التي جمعتني بالفنانة اللبنانية هيام يونس في بيروت تحدثت عن بغداد بحماسة كبيرة وشوق غامر، وهي تسترجع ذكرياتها عن بغداد والحفلات التي كانت تقيمها برفقة وديع الصافي والشحرورة صباح ونجوم الغناء العربي.. أخذت تتحدث بشهية مفتوحة على مديات الشوق لجمال بغداد ولياليها والذوق العالي الذي يتمتع به اهلها.
ظل حديث النجمة اللبنانية هيام يونس عالقا في بالي وهي تتحدث عن الحياة البغدادية بهذه الطريقة، وهي القادمة من باريس العرب بيروت بكل ما فيها من جمال الطبيعة والحياة العصرية المتحضرة.
عندما نتجول في تلك الفترة من تاريخ الموسيقى والغناء، نجد أن بغداد كانت منطقة جذب للكثير من نجوم الغناء العربي، إضافة إلى أن عنصر الأنوثة كان طاغيا على الساحة الغنائية على حساب الأصوات الرجالية التي كانت بعدد محدود، وهذا دليل على الانفتاح والمدنية التي كانت سائدة آنذاك وهن: سليمة مراد، عفيفة اسكندر، وحيدة خليل، زهور حسين، نرجس شوقي، صديقة الملاية، زكية جورج، احلام وهبي، لميعة توفيق ومائدة نزهت.. وغيرهن.  في هذه المرحلة كانت الدولة مهتمة بالتربية الفنية في المدارس، وأخذت تنتشر المسارح والقاعات التي تقدم العروض والأعمال الفنية مما أسهم في صقل المواهب وتنميتها في مختلف الفنون الجميلة، وجعلت الطلبة يقبلون على الفنون بشغف، ما أدى إلى ظهور جيل واسع من المواهب، يتمتع بذائقة جمالية وفنية عاليتين، ولا ينكر دور اساتذة الفن في تلك الفترة في اكتشاف وتنمية مواهب الطلبة، ومنهم على سبيل المثال الموسيقي أكرم رؤوف في معهد المعلمين العالي، الذي تخرج على يده كبار الموسيقيين والملحنين، إضافة إلى البعثات الخارجية للدراسة في بريطانيا وأوروبا.
وفي هذه الفترة ظهر لأول مرة في العراق التوزيع الموسيقي الاوركسترالي، فعمد الموسيقي جميل سليم بتوزيع اغانيه موسيقياً، الامر الذي حفز الملحنين الآخرين إلى تكرار تجربته، مثل الملحن عباس جميل الذي وزع أغنية " جا وين اهلنا "، مستعينا بالموسيقي الجيكي كوبتسا العام 1966 وحرض الملحنين الآخرين على إعادة توزيع الأغاني التراثية
العراقية.
وفي تلك الفترة انطلقت القصيدة من بغداد، لتحلق عاليا في فضاء الساحة العربية بصوت سفير الاغنية العراقية الاول ناظم الغزالي، وتلفت الانظار اليها لجمالها وخصوصيتها، التي تستند على المقامات العراقية التي وظفت بشكل متقن. الأمر الذي جعل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، يطلب أن يلحن للفنان ناظم الغزالي. وهناك الكثير مما يقال عن
تلك الفترة.