سعد صاحب
طارق ياسين يكتب القصيدة الستينيَّة بامتياز، فهي ملأى بالأجواء الشعريَّة القاتمة، من نقائص وعبثٍ وجنونٍ وفوضويَّة واغتراب، ومن وجوديَّة تلهث فوق الوجوه البائسة، وفوق الحروف الذابلة وبين السطور المريبة.
وطارق مسكونٌ بالأمل المرتجى بقدوم البشير المنقذ للأرواح من الانحدار، ومن الضجر والملل والاكتئاب والمماطلة والأعباء والخمول:
(حلب وانته صبي جبتك نذر للموت/ للصلابه للثوره/ وابوك بگلبه الابيض غاص/ ويه السمچ والحيتان من جوره بنفس غواص/ فد نوب نگطع ذچره).
ومن الخوض في غمار حياة عاطلة بلا معنى، يكون الشعر فيها بالنسبة إليه: بمثابة الحبيبة والأهل والصديق والصاحب الوفي والنديم، والهدف الأسمى الذي يشدّه للوجود، وبساط سحري يفعل المعجزات، ويطير به الى سماءٍ واسعة مرصعة بالنجوم والأقمار والأعياد والمسرات والألوان:
(فريت المدينة بليل شفت الريح اجتي من بعيد تون/ بداية سيل).
ياسين له المقدرة على اقتناص الضوء الهارب من نافذة بعيدة والإمساك بنورٍ فريدٍ يصعب على الآخرين، وهو مبدعٌ بإنجاز القصائد الطويلة، وفي كتابة الومضة والمقاطع الصغيرة، أحياناً يقتصد حدّ البخل في الكلمات، وأحياناً يكون كريماً حدَّ الإسهاب، ومعظم كتاباته تعجُّ بالسرياليَّة النابعة من واقعٍ مخيفٍ، وأشعاره فيها فسحة كبيرة للتنجيم والحدس وقراءة الطالع:
(كل واحد يحط لوحه/ على اچتافه سفينه وينتظر طوفان/ وگلتلگم وگلتگم/ وگلتوا هالولد حلمان).
اكتواء
لا يكتب ياسين القصيدة الآمنة المتفق عليها من قبل الشعراء المسالمين شعرياً، بمعنى أنَّهم لا يطمحون الى كتابة مميزة تعتمد على التفكير الخلاق الذي يحفز العقل والروح والمشاعر والإحاسيس والوجدان، على إنتاج قصيدة متكاملة فنياً، وليست مقيدة في جانبٍ واحدٍ محدد الأبعاد والمسافة والمقاس والتصور:
(اختبي بنفنوف ضيگ/ حتى تتعلم شنو معنى النفاهه). يكمنُ سرُّ نجاحهه، في الغموض والجدة والاستفزاز والاستقلال، والرغبة الملحة بطرق أبواب الموضوعات المعقدة، والتعبير عن التجارب المركبة، والابتعاد عن المحاكاة والتلقين والمسايرة:
(لو كثرت حياطين الضجر/ شوف بعينك الدنيه بغمج صحره/ واعبر وحدك الوحده). والشاعر لا يمكن أنْ يكون مبدعاً، إلا من خلال المعاناة والسير في دروب الخطر ومعرفة الأشياء المؤلمة، والاكتواء بلهيب العشق المدمر، والهبوط الى قاع المجتمع المليء بالحكايا الطازجة، والنفور من المواقع التي تربط المبدع بالسلطة، أو تجعله تابعاً للعقيدة السياسيَّة الى حد الإذلال، وشاعر مثل طارق ياسين يقيم في المراتب العليا للإبداع، لا يمكن أنْ يكون تابعاً لأصحاب المفاسد، مهما كانت المغريات:
(اجي لذچره بگلب معطوب/ اجي والروح سمچه تلوب/ اجي وگلبي شعب مشعوب يتراب الدرب دميتك بجدمي/ وجرحت الدغل والخرنوب).
يرفض طارق ياسين الامتثال الى قوالب جامدة، ويواجه من يدينون الخارجين على القوانين الشعريَّة المتصلبة، أما أبطال القصائد فهم من فئاتٍ مختلفة، ولا يبالي بالطبقة الاجتماعيَّة أو المركز الوظيفي لهم، ولا يحبُّ الخشونة في التعامل اليومي، ويكره التسلط والنفوذ والقوة والاستحواذ، وكان يكيل المديح الى حالة الضعف في الإنسان، ذلك الخائف من بطش الأقدار وظلم المصير البائس:
(عديت الشوارع ورجعت تعبان/ صح عديتهن لو بالعدد غلطان).
وياسين يعيش اغتراباً روحياً قاهراً، فالواقع يريد من الشاعر القبول بالمعايير الجائرة، والخضوع إليها بكل أسلوب، حتى لو كانت عن طريق المحاربة، وإنَّ الضغوط الاجتماعيَّة الشديدة، والتثقيف السلبي والإهمال وعدم إتاحة الفرصة، وإغلاق الأبواب بأقفالٍ محكمة، يقللُ من دافعيَّة العطاء، ويزيد من الانطواء والعزلة والوحدة، والاعتكاف داخل المنزل لفترات طويلة:
(فريت المدينة بليل/ فريت المدينة وخبطت ع لبواب/ گلتلگم اجتي الريح دهوا البوب).
استعمار
استولى الاستعمار على خيرات الشعوب، ودمَّرَ البلدان بالتفرقة، ولا شك أنَّ الأوضاع المتردية في العالم العربي، بسبب الاحتلالات المتكررة لأوطاننا الجميلة، والنقطة الرئيسة التي سعى إليها بإلحاحٍ هي: حرمان الفقراء من التعليم ، ومنح الأغنياء الحقوق والامتيازات والعطايا، مقابل الخضوع إليه وتنفيذ ما يريد من المشاريع. وتأتي الاستدارة العجيبة من النبرة الخافتة الى الصوت المدوي، يعود الشاعر الى مهنته الأساسيَّة، فهو معلمٌ في مدرسة حسان ابن ثابت الابتدائيَّة، الكائنة في مدينة الثورة (الصدر حالياً)، وكأنَّه يقدم النصيحة الأبويَّة الى الطلاب، والى جميع الناس أيضاً بصورة شعريَّة عظيمة، تستحق أنْ تعلقَ مثل لوحة فوق جدران البيوت:
(عدو شمسك/ عدو حسك/ عدو لعبك/ عدو كتبك/ عدو كل بيت بيه ازغار/ الاستعمار).