شوقي أبي شقرا: صلاة الاشتياق

ثقافة 2024/10/17
...

 يقظان التقي

حضر بقوة  شوقي أبي شقرا  في الثمانينيات، وامتداداً لعقد الخمسينيات والستينيات، حيث كان العصر الذهبي لتبلور الأفكار والاتجاهات الأدبية والفنية، وإذا كان ذلك صحيحاً، فاسمه لمع في الصحافة المكتوبة كرئيس القسم الثقافي في جريدة "النهار"، قبل أن تأتي الظروف لتطيح بكل هذه الإنجازات، وتجعل الظواهر التي حملت اسمه مع "سعيد عقل، وأنسي الحاج، وأدونيس، وجوزيف حرب، وفؤاد رفقة، ويوسف الخال، وهنري فريد صعب، وحسن العبدالله، وجودت فخر الدين" وآخرين، من الظواهر الشعرية، التي لا تتكرر منذ الثمانينيات أو التسعينيات.

حيث لم يظهر جيل  شامل كبير من المثقفين الذين  يستطيعون أن يؤثروا في المجال العام. وفي التسعينيات كان السطح هو العمق، وماذا سيتذكر العالم عن عقد التسعينيات، مقارنة بعقد الستينيات أيقونة العقود؟

رحل أبي شقرا في الكوما تلك، في الخفاء، هو صاحب الحضور الكبير، ومن كبار المثقفين شعراً ونقداً وأدوات لم يمتلكها سواه.

يعد الشاعر اللبناني الراحل أحد أهم رواد قصيدة النثر، ومن أبرز أركان مجلة "شعر". رحل عن عمر ناهز الـ 89 عاماً، وعرف بأنه كان من رواد الشعر السريالي في لبنان، ومن أوائل من كتب قصيدة النثر العربية، وقد سبقه إلى ذلك فعلياً جبران خليل جبران.

كان أكثر من عمر، وأكثر من شعر، وأكثر من درب مديني وقروي في آن واحد، أثر في كثيرين من الذين خافوه كسلطة ثقافية، ومشوا وراءه على كراهية ربما من الحاسدين. كراهية هي الوجه الآخر لمحبة الشخصية المحظيّة، المفتوحة على فضاءات في قلب المدينة، أي اللغة. وجاء الكثيرون، ممن وراءه قبائل شعرية نثرية بضربات خاطفة. وتراه هو، في وعورته الخصبة.

كانت صفحاته المفتتح لزمن جديد من الشعراء، الذين شرعوا في كتابة القصيدة النثرية الخاطفة والسريعة وهو في أعلى البرج. لطالما تخيلت أنه آت من زمن الفنون والثقافات في القرن السابع عشر، اللورد الشعري والصحافي السريالي الغريب والجميل.  

في بداياته كتب قصائد عمودية بالفرنسية، وسرعان ما انتقل إلى كتابة قصائد التفعيلة، قبل أن ينتقل إلى قصيدة النثر في ديوانه الثالث "ماء إلى حصان العائلة".

وتطبع أجواء الريف قصائده، إذ يستوحي مشاهده الشعرية من النباتات والأزهار والفراشات والحيوانات الأليفة. وحاز ديوانه "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة" جائزة مجلة "شعر" في العام 1962.

أسس أبي شقرا أول صفحة ثقافية يومية في الصحافة اللبنانية، وتسلّم منذ 1964 وطوال 35 عاماً إدارة الصفحة الثقافية في صحيفة "النهار". وكتب مقالات نقدية في المسرح والأدب والفن التشكيلي، ويؤخذ عليه أنه كان يصوغ القصائد البسيطة، التي تصله ويتفنن بها، ويحولها إلى قصائد مركبة تنضج بأسماء جديدة، تنعم بما هو آتٍ، وتراجع ثباتها وزمنها القادم بأنفاس شوقي أبي شقرا وأنامله الطويلة، التي لا تتعب  بعشق لا يعرف مكانه. وبقي أبي شقرا حتى آخر أيامه منهمكاً في الكتابة والنقد، وصدر له أخيراً "سائق الأمس ينزل من العربة".

أطلق الشاعر محمد الماغوط على شوقي أبي شقرا لقب "المرشد الجمالي واللغوي لجماعة شعر"، في حوار الحب والجمال والعمر والذبول والينابيع والعبق ورائحة النهر وأجساد الطبيعة التي لا تتعب والسماء الآتية. وأي لغة، وأي صوتية، وشهوانية العناصر المشغولة التي لا تخفي الغرابة ولا الفجاءة، ولا صعوبة الكلمات، ولا انزياحات القصيدة على الورق والايقاعات السيّلة المائية التي تسير دروباً من التمرد والكسر اللغوي والتصاوير المجهولة وأقدارها العالقة في الشوك.


قصيدته تحتاج إلى أكثر من قراءة، فيها من الشعر القديم والجديد، لا تتنكر للقديم بمسار الجديد، وتضيف أشياء كثيرة، وأحياناً تمشي عكس الإيقاع، مما وراء الصورة، ما وراء الجملة، الجملة وحركيتها مع الجملة الأخرى، على تعلق وانفكاك، وهو يملك لعبة ما، فيها الأوزان الشعرية، والأمور معه تحتاج إلى ثقافة شعرية عميقة لمواكبة اللغة وهي تتحرر والحروف والبنيّة والإيقاع والرمزية التي تأتي من موسيقى توحي بالصورة التي تنبع من داخله في العبارة والتركيب. وقصيدته تنبض من خصب الأفكار ومن تماديها في التوغل، بلا انتساب محدد لتطبيقات سريالية  لغوية أو سيميائية تبدأ بنفسها وتنتهي بلا قارئ ممحدد.

كأنه يكتب بسحر مليء وبترجمة عميقة الجذور وبأصابع تعرف كيف تصنع "الغريب"، وفي فضاء بين الغموض اللامع ببواطنه والهجين من التراكيب، وبين اللمعان الكاسر بأسراره. يقترب شوقي أبي شقرا في عمقه وصعوبته من فؤاد رفقة، ومن هنري صعب، لا يشبه أحداً من جماعة "مجلة شعر"، وقد تجاوز هذا الثلاثي معظمهم في مغامراتهم، بعيداً عن تكرارات ونمطيات الرواد الحداثيين. أبي شقرا يأتي من المتعة التي تنهض بالحواس كلها بتأنٍ وأناة وزمن خارج "الاعجاب"  و"الأسلوبية". 

إنه شاعر السريالية الريفية، بين أركان مجلة "شعر" التي جمعت انسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال.

يروي في مذكراته: «شوقي أبي شقرا يتذكر.. كلمتي راعية واقحوانة في السهول، ولا تخجل أن تتعرى»، يرصد أهم المحطات الرئيسة التي شهدت طفولته واضطراره إلى العمل في التعليم ومساره الشاق في عالم الأدب والصحافة، أو التي شكلت حركة الشعر العربي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلاقة هذه الحركة بتأسيس الصحافة الثقافية في لبنان، وعلاقته مع شعراء مجلة شعر، وخلافه مع أدونيس: «كان خلافنا شعريًا بالمطلق، لكن في الحقيقة ما من سبب جوهري. أدونيس ويوسف الخال، جاء كل منهما إلى المجلة وفي رصيده قصائد كلاسيكية على الوزن والقافية. لم تكن هذه حالتي وصرت أشكل نصوصي بطابع جديد. كانت روح التحدي سائدة بيني وبين أدونيس، هو من طريق وأنا من طريق». وعن تجربته في جريدة "النهار": «كان عندي نظرة وقدرة على التنظيف والتشذيب والصياغة، فعلت تمامًا كما كنت أفعل في مجلة شعر.. خضنا تجارب ثقافية كثيرة في النهار، منها الملحق الثقافي أيضاً، قمنا بجهد لا يضاهيه جهد». وعن علاقته بالشعراء الشباب الذين كان ينشر لهم: «هؤلاء اشتغلت على قصائدهم كما كنت أفعل في مجلة (شعر)، وكانوا لا يغضبون، بل يأتون ويشكرونني أحيانًا ولو تحت ستار الحياء، لتنظيفي القصائد وصياغة المحتوى». فالعمل على اللغة والتأنق فيها قبل النشر كان عنده في مرتبة «الشغل على سبحة، على كل ما هو ثمين".

ترجم نصوصاً شعرية لشعراء كبار أمثال رامبو وريفيردي وأبولينير ولوتريامون. ورغم الحداثة التي تميزت بها "مجلة شعر"، فإن شعر أبي شقرا بقي محافظاً على نكهته المحلية.

بدأ بكتابة قصائد التفعيلة، ثم ما لبث أن تحرر منها معتمداً قصيدة النثر في ديوانه الثالث "ماء إلى حصان العائلة" (1962) الذي حصل بفضله على جائزة المجلة. لكن رغم تحرر شعر أبي شقرا من الأوزان والقافية، فإن رائحة الجبل والطبيعة وسنجاب الريف اللبناني بقيت حاضرة في قصائده.

بيد أن مفردات الجبل عند أبي شقرا انزاحت عن مسارها التقليدي لتلحق بنبرة سريالية، كما تمتزج في قصائده الفكاهة مع تقنيات الخيال الكبيرة.

أبي شقرا من مواليد بيروت 1935، لكنه قضى طفولته في مزرعة الشوف ورشميّا، حيث كان والده موظفاً في سلك الدرك. من هناك يأتي تأثر شعره بالطبيعة لأن طفولته كانت حافلة بمشاهدها وإيحاءاتها.

ومن جملة الحركات الشعرية والثقافية التي شهدتها خمسينيات القرن الماضي، تأسيس شوقي أبي شقرا "حلقة الثريا" مع ثلاثة من أصدقائه هم: 

إدمون رزق، وجورج غانم، وميشال نعمة.

ومن دواوينه التي استُقبلت بحفاوة من قبل النقاد والشعراء ديوان "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة". ومن دواوينه الأخرى "سنجاب يقع من البرج، ويتبع الساحر ويكسر السنابل راكضًا، لا تأخذ تاج فتى الهيكل، وصلاة الاشتياق على سرير الوحدة، وثياب سهرة الواحة والعشبة، وسائق الأمس ينزل من العربة"، إضافة إلى مذكراته التي يروي فيها كواليس العمل الصحافي والقلم الأحمر والضمة والفتحة.

ومنذ العام 2008، عاد شوقي أبي شقرا إلى الكتابة الصحافية من خلال زاوية شهرية في جريدة "الغاوون" البيروتية. تجربته لم تأخذ حقها الكامل، وهو بقي وفياً  لما يميز التجربة الشعرية اللبنانية المتأثرة بالقصيدة الفرنسية وبلعبة اللغة داخل اللغة، أو صوغ الصورة الرمزية والسريالية التي تأثر بها كثيرون. لكنه عرف كيف يبللّ أصابعه في الشعر وجوهره على تجارب وحواس لبنان الجماليات والأحلام التي لا تكتب إلا بالشعر، والحياة الصحافية، التي تنتهي "أوزاناً" من التجربة المفتوحة والحرة الطالعة من عمق الاعتمالات الداخلية، ومن ترتيب نثري لشخصية غابت طويلاً خلف الجدران مثل الشعراء الصوفيين النثريين في عزلاتهم الكبرى، التي تخلق فيهم مكاناً، جسداً، مناخا، طقساً.

غادر شوقي أبي شقرا النافذة على تنوع الشخصية داخل التركيب المعقد. كل ذلك الخجل الغريب، لعبة الاختفاء والغرابة، التوغل في الداخل، الايحاء الرمزي في مجهوله، الكسر الدرامي، اللغة العالية، والحياة غير المتساوية، التي لا تحفها الآلام عن الجوانب الشكلية الأخرى في الحياة. لا أدري إذا كان يمثل صورة الشاعر المرتاح. قابلته وحاورته طويلاً. وهو في أناقة الإنسان والتعبير وصفاء الكلمة، والقامة الطويلة. ليس أبعد إلى صورة عالم من حوله كان يخشاه الشاعر بحذر، حتى أنه لم يعتبره مجتمعاً ثقافياً 

مهماً.

يرحل شوقي أبي شقرا، تاركاً وراءه ريادة، شخصية "غير شكل". لطلما كان محرضاً على ثقافة الحياة في زمن الحرب، أصر على صفحته الثقافية كموقف وطني وقضية بطريقة لا سياسية، رائعة درسنا عليها جميعاً. كانت الأكثر عمقاً، تجعل من لغة الحياة هي المسألة في وجدان لبنان الذي أحبه، وكان مؤمناً بقيامته من الكوما، التي بنى حولها قصصه في مواجهة أعمال القصف  اليومي. حين كان لبنان يموت كانت مارغريت دوراس بطلة قصته تخرج من كوما عشرين عاماً وتعود لتكتب من جديد.غادر نافذة قصره السريالي كنوع جديد 

من النثر.