د. علي حداد
(1)
تخشبت أعناق الكثيرين منا ونحن نتطلع إلى ما لدى الغرب وحده من علوم وآداب وفنون وتطور حضاري كبير. ويوم تذكرنا أن هناك في الشرق منا ـ والشرق الأقصى تحديداً ـ من هو جدير بأن نلتفت إليه ونتأمل ما عنده من تراث وقيم وآداب وفنون، تحسرنا أنا تأخرنا كثيراً في هذا المسعى. فقد أدهشنا ما وجدناه هناك. وكانت اليابان ـ بلداً وشعباً ـ من بين بلدان ذلك الشرق البعيد التي التفتنا إليها فأمسكت بعيون دهشتنا ودعتنا إليها.
وكان سبقه ـ أو ساوقه ـ أنا فتحنا أعيننا لننظر إلى هذا البلد وما أنجزه من تطور علمي وتكنولوجي هائل، ظناً منا أن ذلك تم لهم على حساب قيم الثقافة الخاصة بهم.
حتى إذا تأكد لنا حرصهم الباذخ على خصوصياتهم في التقاليد والفنون ـ إذ يعايش الياباني رفاهية الحداثة في حياته المادية، لكنه بالمقابل لا يتخلى عن ذوقه التقليدي الموروث في ممارساته المعنوية والروحية ـ عدنا لنراجعها فكان الحديث المخبر عن المجتمع الياباني وقيمه الاجتماعية السائدة وفنونه وآدابه، وإلى جوار ذلك ماله من صناعات شعبية، وأنواع موسيقى وفنون، فعندهم غنائهم المميز، وعندهم "مسرح النو"، ولديهم من الشعر حصة باذخة، ففي اليابان ـ على ما صرح أحد المثقفين اليابانيين يوماً ـ أكثر من خمسة ملايين شاعر، يكتبون أنواعاً شعريّة متعددة تقليدية كـ (التانكا) و(الهايكو) وأخرى حديثة متحررة القوالب.
و"شعر الهايكو" الذي سنقف عنده نمط مشتجر بكثير من التطلعات القيمية والروحية للشخصية اليابانية التي صنعته بحساسية خاصة لا يمكن لسوى الياباني الذي عايش وجوده في لغته إدراكها. وعندهم أنه ليس بالشاعر الياباني من لم ينظم "الهايكو".
لا يمكن عدّ "الهايكو" شكل شعريّ يمكن مناقلة قالبه إلى سواه، فهو منظومة أداء مؤلفة من "شكل ومضمون وتكيف شعوري" تضافروا حد التماهي في بنية تعبير واحدة بما يشرعهم جميعاً على واحدية الإدلال التعبيري المكتفي بقيمه.
إن يطلع على أمثلة هذا الشعر سيجد أن له اشتراطاته في القالب المتبع الذي يقوم على "فردية" العدد: "ثلاثة أسطر" ومقاطع ملتزمة الفردية كذلك "5-7- 5"، في حين أن الغالب على الأشعار عند الشعوب مجيؤها مزدوجة العدد: كـ"الدوبيت"، و"الرباعيات"، وحتى السونيتات التي تتألف من أربعة عشر سطراً أو بيتاً. وذلك ما يثير رغبة التأمل لفلسفة هذا الرقم المفرد عند اليابانيين.
إنّ لكل قصيدة "هايكو" كونها المعنوي المستقل وحسها الشعوري المكتمل الذي يحتكم إلى لحظة متأملة ليس محورها الذات المفردة للشاعر، بل ذات إنسانية جمعية، تتماهى مع الطبيعة والكون وموجودات الحيوات الأخرى، من دون تعكز على المجاز أو الاستعارة، وليس في قصيدته من تأويل خارج ما تنص عليه.
ولقصيدة الهايكوـ كما الطبيعةـ فصولها الأربعة التي يتماهى النص في تشكيل بنية مضمونية وشعورية عنها فهناك "هايكو" صيفية، وثانية خريفية، وثالثة شتائية، ورابعة ربيعية، ولا يدرك ذلك التماهي مع الفصول إلا الياباني وحده.
والقصيدة منه تأتي مستقلة بتفوهاتها، فهي لا تأخذ مدداً من قصيدة سبقتها، ولا تنبثق القصيدة اللاحقة منها. يتراتب ذلك في نظام من التشكل الفردي المقنن في ثلاثة أسطر، لكل منها عدد من المقاطع التي تتكيف بإيقاع خاص لا تغادره. وتخلو قصيدة الهايكو من "العنونة"، حتى لتبدوـ بما هي من كثافة معنى ومفردات ـ كلها عنواناً، والحقيقة فإن عنوانها لديهم هو ما يحمله مقصدها الدلالي.
وهكذا فقد أمسى شعر الهايكو نتاج ثقافة الشعب الياباني وجماليات ذائقته واستشعاره لكل مظاهر الوجود الذي حوله. وهو حصة جمالية لهم وحدهم لا يجاريهم فيها أحد. إلا كان التقليد نصيبه.
سيقال ولكنّ قصيدة الهايكو كتبت من قبل كثير من الشعراء في مختلف البلدان، وأسست لها جمعيات ومنتديات في أوروبا وأمريكا وبلدان أخرى، وذلك أمر حصل فعلاً، ولكن هل حقاً أن ما كتب هو ذات الهايكو الياباني بروحيته وانشداده إلى الطبيعة والتماهي مع موجوداتها، وبهيكله الفني المقطعي الذي لا نجده في غير اللغة اليابانية؟
لقد حاول كثير من الشعراء الغربيين تقليد هذا الشكل الشعري منذ أن تعرفوا به أوائل القرن العشرين، لكنهم أخفقوا في تقدير قوانينه ونمطه ومسعاه القيمي.
وكان الشاعر الأمريكي الكبير "إزرا باوند" من أوائل الشعراء الغربيين الذي سعى إلى كتابة قصيدة الهايكو، غير أنه توقف عن ذلك لاحقاً، معترفاً أن
ما كتبه ينقصه الكثير لكي يكون "هايكو" حقيقي، وأول ما ينقصه ـ طبقاً لقوله ـ "الروح اليابانية" التي لا يمكن تقمصها.
(2)
عرفنا - نحن العرب- من بين أشكال التعبير الشعري المتداول في فضاء الشعريّة العربيةـ القصيدة القصيرة جداً، أو المقطوعة الشعريّة، ولعلها تأسست عندنا على ما يقع لدينا من تبني البيت الشعري الواحد شاهداً قيمياً أو سلوكياً أو نحوياً نكتفي به، وغالباً ما لا نسأل عن بقية أبيات القصيدة الذين كان بمعيتهم.
كما عرفنا في نثرنا العربي الموروث ما سمي بـ "التوقيعة"، أو القول الموجز، كالذي نجده في كتابات المتصوفة العرب، ومن تأمل منجزهم وسايره. ويبدو أننا حين أطلعنا على "الهايكو" ظننا ـ أو ظن بعضنا ـ أن ما كان عندنا هو مثيل له، فراح ـ تترعه رغبة الإعجاب بالوافد أو بنزوع تقليده ـ يدعي أن ما يكتبه هو "هايكو"، وربما أراد البعض أن يضفي عليه مسحة تخصنا فسماه "الهايكو العربي"، ووجد البعض الآخر أن في ذلك مباعدة عن خصوصياتنا في التسمية الاصطلاحية، فذهب يتخيّر التسمية التي يراها، لتتدافع المسميات في لغتنا عن هذا الشكل الشعريّ، فهو: (قصيدة الومضة، التوقيعة، الشذرة، اللقطة، القصيدة القصيرة جدا، المقطعة، الأنقوشة، اللافتة، اللمعة، البرقية، الأبجرام، النص الوجيز) وكلها تشير إلى نص شعريّ باذخ الاختزال ولكنه غني بالمعنى والصورة والمقاصد. نص يضع شتات ما يتعلق بفكرة من الأفكار في بؤرة تخيل "لامة" ومكثفة، يصنع من خلالها مفارقة لافتة، تخرج إلى التلقي فتستعيد فيه التنادي القرائي المتأمل، وسعة في المعنى المشرّع على مساحة استئناس دلالي خصيبة.
إن عيـن أكثر من شاعر وشاعرة عندنا كانت تذهب في تطلعاتها إلى شكل "الهايكو" الذي لا يتأتى لمن شاءه بالتمني، فلليابانيين سمات شعر موروثة تخصهم ويتقنون اشتراطاتها ـ أنساقاً ومضامين ـ ولنا أخرى موروثة ومستحدثة نجيدها، ولا نطالب الآخرين بإتقانها كما هي لدينا، وإلا فأي شاعر من غير العرب
ملزم أن يتقن أوزان عروضنا وينظم على وفقها، وأوزان شعرنا خصيصة عربية موروثة لا تجدها عند سوانا من الأمم بالترسم الخاص الذي توارثناه .
وعلى ذلك نقول بثقة مطمئنة: إن مجمل ما يكتبه الشعراء من أبناء جلدتنا هو نص قصير مكثف الدلالة موجزها، يلفت الانتباه بجمالياته، وهو جدير بالتأمل والقراءة، ولكنه يبقى نصاً مكانه أن يجاور شعر "الهايكو"
الياباني، وإن أخذ ثيمة اشتغاله على الطبيعة واستنطاق تكويناتها وأنسنة مخلوقاتها.