أين حراس الضمير والأخلاق؟

آراء 2024/10/17
...

 أحمد حسن

 

أين أنتم من قامة مثل محمود درويش، الذي جعل من شعره صدى للثورة، أو غسان كنفاني الذي كتب بمداد من دم، أو هاني الراهب الذي لم يخفْ يومًا من مواجهة الظلم؟ ومظفر النواب الذي شرب قصائده معنى التضامن والضمير بين العرب، فهؤلاء هم النخب بحق، لا يهابون ريحًا ولا يتراجعون أمام طوفان. لقد نذروا أنفسهم لخدمة الحق، كما كان الشاعر العربي في قديم الزمان يهدي قومه الحكمة، ويرتقي بهم إلى علياء الفضيلة.


في غمرة ما يعيشه شعبنا في فلسطين ولبنان من تقلبات الزمان وغدر الأيام، أتساءل: أين ذهبت تلك النخب التي كانت في يومها كالسراج المنير، تهدي الحائرين وتثبت القيم في النفوس كالجذور في الأرض؟ هل غدت نخبتنا، التي كانت تُعرف بالحزم والعزم، تكتفي اليوم بمراقبة الأحداث من شرفات النسيان، كما يشاهد الغريب موكبًا لا ينتمي إليه؟ أين هم حراس الضمير، أولئك الذين حملوا مشاعل الفكر في ليالٍ مظلمة، فأناروا الدروب لشعوبهم، كما ينير البدر السماء للراحلين في الصحراء؟

أترى النخبة رضيت أن تكون شبحًا يتلاشى في ظلال الحداثة الزائفة التي أنتجتها الليبرالية الأمريكية؟ هل باتت مجالسها في دبي والدوحة ولندن، ترفًا لا روح فيه، وتجارة بلا معنى؟ أين هي تلك الضمائر التي كانت تدافع عن المظلومين، وتحمل الهموم كما تحمل الجبال الثقال؟ أفي ظل هذه الأيام الحالكة من قصف للقنابل المميتة على بيوت أهلنا وعزتنا من المدنيين في الضاحية الجنوبية وغزة، تكتفي النخبة بالصمت، وكأنما هي شجرة جذورها في الهواء، لا في الأرض؟. 

أين أنتم من صرخة فلسطين، وجراح لبنان، وأنين اليمن؟ أين أنتم من الحصار الذي يحيط بغزة، ومن النار التي تشتعل في السودان؟ أليس منكم رشيد، يقدم الضمير كما يتقدم القائد قومه في المعركة، لا يخاف الموت ولا يخشى الفناء؟ أين تلك العزائم التي تُسيّر الأمم، وترد الحق لأصحابه، كما كانت تفعل نخب قبلكم، فصنعوا المجد بقوة الفكر وصلابة الإرادة؟.

كما قال ابن خلدون: "إن فساد الأخلاق هو أول ما يقوض أركان الدول"، فإنما النخب هي حراس الأخلاق، فإن هجروا مواقعهم، ضاعت الأخلاق، وإن ضاعت الأخلاق، انهارت شعوبنا. ولكن، ويا للعجب، كيف لنخبة أن تتخلع أوتادها، وتترك السفينة تغرق وهي التي كانت لسنين طوق النجاة؟

النخبة اليوم، كالسحاب المتلبد تارة والمشع تارة أخرى، تشهد من بعيد ولا تحرك ساكنًا. يا نخبة العراق والعرب، ألا ترون أن الصمت إزاء الظلم هو تواطؤ؟ كما قال كامو: "الصمت إزاء الظلم هو تواطؤ". ألم يكن دوركم دائمًا أن تتصدوا للظلم وتنشروا الضمير؟ أم أن الخوف على المصالح الشخصية والأذى قد جعل بينكم وبين قيمكم هوة عميقة لا يجسرها إلا من يملك شجاعة الحق؟

أين أنتم من قامة مثل محمود درويش، الذي جعل من شعره صدى للثورة، أو غسان كنفاني الذي كتب بمداد من دم، أو هاني الراهب الذي لم يخفْ يومًا من مواجهة الظلم؟ ومظفر النواب الذي شرب قصائده معنى التضامن والضمير بين العرب، فهؤلاء هم النخب بحق، لا يهابون ريحًا ولا يتراجعون أمام طوفان. لقد نذروا أنفسهم لخدمة الحق، كما كان الشاعر العربي في قديم الزمان يهدي قومه الحكمة، ويرتقي بهم إلى علياء الفضيلة.

وكما قال المتنبي: "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجوم"، فإن النخبة لا ترضى بالدنية، ولا تهنأ إلا بالمعالي. فهل نرى اليوم نخبة تسعى في الفضائل، أم أن النخبة قد انزلقت في دروب الحداثة السخيفة والمظاهر الخادعة؟ هل باتت الأفكار تُوزن بالإعجابات والتعليقات العالية في منصات "أكس" و"فيسبوك"، بينما يُهمل عمق المعنى وحقيقة الرسالة؟. 

إن الشعوب لا تقوم إلا بنخبتها، والنخبة لا ترتفع إلا بالأخلاق والقيم، كما قال الجاحظ: "إن الشرف لا يكون إلا بالعمل"، فمن ركن إلى السكون فقد أضاع شرفه، ومن سكت عن الظلم فقد خان ضميره. فهل يكون دور النخبة اليوم أن تراقب من بعيد، كالغريب الذي لا يعنيه ما يجري في وطنه؟.

في زمن مضى، كان للمفكرين والمثقفين مكانٌ بين الشعوب العربية، كالنجوم المتلألئة في سماء المجد، يحملون لواء الحق في وجه الظلم، كما يحمل الفارس رمحه في سوح الوغى. نذكر نخوة وشجاعة، فرج الله الحلو، ذاك المناضل الذي وقف بشجاعة في وجه الاستبداد، مدافعًا عن حقوق الشعب وحريته. لم ترهبه قسوة السجون، ولم تثنه التهديدات عن مواصلة مسيرته. قاوم ظلم الطغاة بفكر واعٍ وإرادة لا تلين، ضحى بحياته في سبيل قضية العدالة كما يضحي الفارس بحياته في سوح النضال. لم تنحن قامته أمام جحافل القمع، فصار رمزًا للتضحية والفداء، تضيء ذكراه في سماء النضال مع كل جيل جديد.

وكذلك نذكر بدر شاكر السياب، الذي قلب موازين الشعر العربي الحديث، وسخر كلماته في خدمة القضية الوطنية. كانت قصائده، التي تعكس معاناة الإنسان وقهر السلطة، أشبه بصوت الأمل المنبعث من أعماق الألم. قاوم الاحتلال والفقر والمرض، وترك إرثًا شعريًا خالدًا يعبر عن أحلام الشعوب وآلامها. كلماته مثل سيوف تقطع في طريق الحرية، وتعكس قوة الإرادة التي لم تنكسر رغم الصعاب، فكان لسان حال المناضلين في وجه الظلم والطغيان.

أما اليوم، في زمن التخاذل والخنوع، ترى النخب وقد غابت عن ساحات المعارك الفكرية، فلا نسمع لهم صوتًا إلا همسًا في قاعات النسيان. كما حدث في عراقنا الجريح بعد الغزو، إذ خسر كثير من نخب الأمة شرفهم تحت رايات الغزو، وركنوا إلى الصمت المذلّ، وغلب عليهم الجشع. تركوا المبادئ تُباع في أسواق المصالح، كما يُباع العبد في سوق النخاسة.

وكما تسطع شمس الشجاعة في فلسطين ولبنان، يقف المدنيون العزل بثبات وقوة، مثل جدار صلب، يمسحون آثار القصف والدمار عن أرضهم بأيديهم. رغم عدم امتلاكهم للسلاح، يواجهون بوعيهم المتقد ظلم العدوان ويرفضون الرضوخ. يتمسكون بمواقفهم الوطنية الثابتة، مؤمنين بأن المقاومة هي مصدر الكرامة والعزة. هؤلاء المدنيون يمتلكون وعيًا يتجاوز وعي النخب، فهم يعيشون التجربة بشكل مباشر ويستوعبون أبعادها بعمق أكبر، مما يجعلهم أكثر إدراكًا لحقيقة الصراع وأهمية الصمود. لا يخافون من التهديدات ولا ينكسرون أمام التحديات؛ قلوبهم قوية مثل الصخور، وأرواحهم متجذرة في الأرض، ثابتة في حقهم في الحرية والدفاع عن وطنهم بكل الوسائل المتاحة.