علي لفتة سعيد
يبدو أن الأمر بحاجة إلى سؤال يفرّق بين مفهومين مهمين، ما بعد الحداثة والمعاصرة من جهة والأصالة من جهة أخرى.. والسؤال هو: هل الرواية الآن في زمن ما بعد الحداثة هي ذات الرواية في أصالتها وجذرها ومعناها ومفهومها؟
إن الإجابة هنا تتشعّب كثيرًا خاصّة إذا ما عرّفنا الرواية على أنها "كتابٌ حافلٌ بأجزاء المتناقضات والمتّفقات، وجامعٌ لأجزاء الدروس المختلفة للعلوم الأخرى، وحامل قصديات يراد منها تخويل الذات بمخاطبة الآخر من زاويةٍ غير منظورةٍ أو من خلال خطٍّ وهميٍّ يتّصل بالصفحات وينتهي بفهم المغزى, ومداعبة العقل واستغلال طاقاته الفيزياوية، لتكوين فعلٍ أخّاذٍ يتحرّك كحركة الذرّات التي تتلاقح لإنتاج خاصيةٍ فلسفية لها أبعاد تشويقية". كما ذكرنا ذلك في كتابنا النقدي "بنية الكتابة في الرواية العربية..."، لذا فالرواية كنوعٍ سرديٍّ لم تعد مجرّد حكاية، بل هي فنٌّ قائمٌ جاءت به سرديات ما بعد الحداثة أو الحالة التي يتطلّبها زمن التلقّي الجديد والمعاصر الذي يختلف كليًا عن الزمن السابق الذي يرتبط بالقِدَمِ والأصالة.
إن سرديات ما بعد الرواية أخذت تهتم بالفكرة كمناقشةٍ ودلالةٍ على وجود هذه الفكرة كعالمٍ موازٍ، وربما يفوق وجود الحكاية التي لا يخلو منها أيّ عمل سردي أو إبداعي، لكنها تراجعت إلى المركز الثاني، لتعلو الفكرة التي تحملها الحكاية والتي هي أساس مفعول العمل السردي الحديث.. فلم تعد الحكاية بعقدتها كافيةً لتفعيل عنصر الدهشة والصراع والفعل الدرامي، وهذه عناصر تتواجد أيضًا في السرديات الحديثة، لكنها لم تعد كافية لتبويبها على أنها روايةٌ حديثةٌ تحمل سردياتها الفاعلة في تفعيل العقل.. ومن هنا فإن الصراع لم يزل محتدمًا بين من يفعّل الحكاية على حساب الفكرة، ومن يفعّل الفكرة لإعلاء من شأن الحكاية، وقد ذكرنا في مقال "الرواية بين الحكاية والسرد" ومقال "الرواية من الحكاية إلى الفكرة"، حيث أشرنا إلى أن الرواية لم تعد مجموعة حكايات أمام هذه التطوّرات التي أوصلت النوع الأدبي بكلّ مسمياته إلى متغيراتٍ حقيقيةٍ أطلق عليها النقّاد والمفكّرون في حقولهم التجريبية العديد من الميتات، التي لم تستقر على حال، حتى صارت ميتا ميتا ميتا سرد مع كلّ تطوّر فكري أو تطوّر كتابي. بل إن الرواية لم تعد تحكم بخاصيتها الحكائية أو قربها من السرد وتشابه وجود الأشخاص والزمن والتاريخ وبؤر الصراع، بل بمتحكّمات الإدارة واللغة والانزياحات وقدرة التعاقب والمناورة. ولهذا فإن السرديات الفاعلة الآن، أو ما يمكن أن تفعله هذه السرديات بإنتاج الرواية الحديثة المعاصرة، هي تلك الرواية التي لا تتعكّز على الحكاية وتفعّل مفهوم الفكرة التي تدور حولها كلّ الفعّاليات السردية، بما فيها تدوير الحوار من الشخصيات لصالح تفعيل الفكرة، مثلما هي أيّ الرواية الحديثة لم تعد تهتم بفعالية الأقوال "القديمة"، من مثل أن هذه اللغة لا تستقيم مع هذه الشخصية أو تلك، وأن الراوي العليم كان مسيطرًا على قيادة المتن السردي، وأن المنولوج هو المعيار الذي هيمن على فاعلية الطريقة السردية.. فهذه أصبحت كلّها في خدمة الفكرة التي هي وجود صراعٍ ينشد تحليله وتفكيكه من أجل الوصول إلى عملية تفعيل الذهن والعقل لإنتاج فعل جمالي إدهاشي، وليس إلى إملاء فراغ الفاعلية العاطفية أثناء القراءة.