الفوتوغرافيا.. الابن العاق الذي غيَّر تاريخ التصوير الصباغي

منصة 2024/10/22
...

 عزالدين بوركة


تخبرنا الملاحظة العينية لتاريخ الفن التصوير، بأن العلاقة بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير الصباغي قد تطورت من خلال ذلك التبادل المستمر، الذي تغذيه بعمق الديناميات التاريخية والتقنية والجمالية للوسائط. منذ اختراع التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر، بدأ الجدال بين الفنانين، مما خلق مجالاً للحوار حيث أثر كل فن على الآخر، أحيانًا من خلال التنافس، وأحيانًا من خلال التكامل. ويعيدنا الزمن إلى أبعد من هذا القرن إلى أولى بوادر التفكير في الغرفة المظلمة، وأصل إنسان الكهف الملقى في غياهب الجب ينظر إلى الظلال تتحرك دونما إدراك لمصدرها، ودون أن يعي منبع الضوء، الحقيقة الوحيدة كامنة في الانعكاس. ووحدها الصور المنسوخة على الجدار "السيمولاكر" هي الحقيقي.. وهكذا تحول كل مُصوَّر بقوة إلى حقيقة. لكن أيهما أكثر مصداقية: الفوتوغرافيا أم التصوير الصباغي؟

في العتمة العميقة للغرفة المظلمة (chambre obscure)، حيث يختلط الضوء مع الظل، ولدت معضلة الأبوّة. ولعلّ الفوتوغرافيا هي الابن الذي أراد أن يتجاوز أباه، التصويري الصباغي. لكنها، مثل كل ابن عاق، بقيت طوال تاريخها تسعى للتمرد عليه، تسعى لأن تثبت هويتها بعيدًا عن ظلال الأشياء التي تأسرها، لكنها لا تستطيع الانفصال عن أصولها، التي تشدها إلى جذور الألوان والأشكال. إنها عقدة أوديب "أو إليكترا" الفن. لكنها في الآن نفسه، الحكاية العتيقة للأبناء الذين، مهما ابتعدوا، يظلّون يحملون في داخلهم طيفًا من أصولهم، ظلاً لا ينفصل عنهم، مثل الغرفة المظلمة التي ترافق كل صورة تُلتقط... تلك الكاميرا التي نحملها على أعناقنا أو في جيوبنا تعويضا لعقدة الولوج إلى مرسم الفنان.. الكاميرا "المرسم المتنقل" حولت الكُلّ إلى فنان.

الغرفة المنيرة
يمكن النظر مبدئيا إلى فن التصوير على أنه شكّل، بعدِّه تعبيرا فنيا أسبق على آلة أسر الضوء، تأثيرًا كبيرًا على التصوير الفوتوغرافي الناشئ. وكما لاحظ رولان بارت في كتابه "الغرفة المنيرة"، فإن الصور الفوتوغرافية الأولى غالبًا ما كان يُنظر إليها على أنها لوحات فنية. إذ "لا بد أن المشاهد الأول للصورة كان يعتقد أنه كان يرى لوحة فنية، حيث كانت الإطارات والمنظور متشابهين إلى حد كبير": لوحة فنية بلا ألوان.. وهي لوحات كانت رائجة تعتمد اللون الواحد غالبا، بفعل ما يفرضه فن الحفر أو ما تستدعيه الصور المنتشرة على الجرائد من ضرورات الطبع. لهذا لعل التصوير الفوتوغرافي، منذ بداياته، كان مسكونًا بشبح الرسم، وهو نظام قلده وعارضه في الوقت عينه. ويوجد هذا التراث التصويري أيضًا في أعمال العديد من المصورين الذين، من خلال تركيباتهم واستخدامهم للضوء، استحضروا تقنيات أساتذة الرسم العظماء. على سبيل المثال، غالبًا ما كان مابلثورب يصور أغصان السوسن ببراعة وتكوين يذكرنا بأعمال الرسامين الشرقيين، يخبرنا صاحب "لذة النص".
ومع ذلك، مع مرور الوقت، تطورت هذه العلاقة إلى تبادل أكثر توازناً وتكافلية. سرعان ما بدأ التصوير الفوتوغرافي في التأثير على التصوير الصباغي. منذ نهاية القرن التاسع عشر، وجد الفنانون في التصوير الفوتوغرافي مصدرًا للإلهام وأداة قيمة لممارستهم الفنية، نوعا من صناعة كليشيهات يعودون إليها لاحقا، أمر شبيه بتلك الرسومات المائية التي ينجزونها سريعا، إلى حين عودتهم لمعاقل لوحاتهم. إذ قدم نموذج- داغير وآلة نيبس السحرية لفناني تلك الحقبة وسيلة لالتقاط المشاهد بدقة لا تستطيع العين ولا الذاكرة توفيرها. جسد غوستاف كوربي مثالا رمزيا لهذا التبادل الغامض بين الآلي (الذي يحمل روح الشيطان مثلما وصفت الفوتوغرافيا أول مرة) واليدوي (التصاوير الصنيعة يد الفنان). إذ كثيرا ما استخدم صاحب "أصل العالم" الصور الخام لتكوين لوحاته، وبالتالي خلق واقعية تصويرية جديدة. استغل كوربي التصوير الفوتوغرافي ليس فقط كأداة تقنية، ولكن أيضًا كمصدر للإلهام الإبداعي، الذي سمح له بالبقاء وفيًا لرغبته في تمثيل الواقع بدقة مثيرة للقلق. لهذا "لن يكون مفاجئًا إذا كانت ممارسات التصوير الفوتوغرافي، التي تلفت الانتباه اليوم لأول مرة إلى هذا العصر الذهبي ما قبل الصناعي"، إذ يخبرنا والتر بيامين في نصه البديع عن التاريخ الموجز لهذه التقنية التي ستتحول إلى فن قائم بذاته ومستقلا بجغرافيته.
تنحدر كل من الفوتوغرافيا والفن الصباغي من الرحم نفسه: اللون الأحادي (المونوكروم). الأولى مما فرضته الظلال من لون ميال للرمادي المسود، والثانية من تلك اليد المملوءة والمفرغة المصبوغة - بالغمرة- على جدار كهف. وتحكي الأسطورة عن تلك الفتاة التي أسرت ظل حبيبها وهو على أهبة السفر البعيد، قبل أن يحول أبوها تلك الصورة الظلية المملوءة إلى منحوتة نصفية تنبع من صلب الجدار. كأن المونوكروم (الظل) هو أصل الفنون جميعها، وأليس المسرح الإغريقي قد تجذر من تلك عروض الدمى الظلية في الشرق الأقصى؟ وألم يطور سيلويت رسوماته النحيفة الظلية من أثر الظل على الجدار؟
يجسد إذن، اللون الأحادي تلك العلاقة الجدلية العجيبة بين ما تصنعه الآلة وما تختلقه اليد وما تراه العين" التعلق بالأصل والتمرد عليه. هناك سحر خاص في اللون الأحادي، كأنه استعارة للفن البدائي. إذ عند غياب الألوان، نجد أنفسنا أمام جوهر الصورة، أمام حقيقتها المطلقة. حين تُنزع الألوان، وتبقى الصورة محصورةً في نطاق الأبيض والأسود، نشعر بأننا نعود إلى البدايات، إلى تلك اللحظات الأولى التي كان الإنسان يرسم فيها في على جدران الكهوف المظلمة. إنها اللغة عينها، لغة النور والظلام، حيث لا حاجة للتعبير عن العمق والبعد سوى بتلك الثنائية البسيطة، التي تحكي قصة الصراع بين النهار والليل، بين الوجود والعدم. في هذه اللحظات، تصبح الفوتوغرافيا شبيهة بالتصوير البدائي، بسطورها ونقاطها التي تنحت الحقيقة ببساطة موجعة، تجعلنا ندرك كم نحن قريبون من فنان الكهف الأول الذي كان يرسم ليحكي قصصه عن الحياة والموت، الخوف والحب.

قناص اللحظات
لكن في أعماق هذه العلاقة أيضًا، تظهر أسئلة معقدة: هل الفوتوغرافيا هي الابن العاق، أم أنها الابن الذي أتى ليحقق ما لم يجرؤ عليه أبوه (التصوير الصباغي)؟ في الضوء الذي يخترق الغرفة المظلمة، نرى الإحساس الصوفي الذي لا يمكن إنكاره.. توقظ فينا الفوتوغرافيا عين الحكمة، هنا تنكشف الحقيقة بطريقة لم يكن التصوير قادرًا على الوصول إليها، لقد جعلت أمر امتلاك الصورة ممكنا ومتاحا للكل؛ لم نكن لنملك صورتنا الذاتية إلا نادرا وبشرط البذخ الاجتماعي والاقتصادي. صارت اللحظة مع الفوتوغرافيا لحظة تؤسر في أنها، لا لحظة مصطنعة ممتدة في الزمن والتكرار الممل: الفوتوغرافي قناص اللحظات.
ومن ناحية أخرى، سعى التصوير الفوتوغرافي أيضًا إلى تعريف نفسه على أنه فن مستقل عن طريق استعارة تقنيات التصوير الصباغي. وتشكل الحركة التصويرية، التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، مثالا صارخا على ذلك. إذ سعى المصورون الفوتوغرافيون إلى الاعتراف بالتصوير الفوتوغرافي كفن من خلال تقليد الأنسجة والتأثيرات التصويرية للوحات الواقعية. استخدم روبرت ديماشي Demachy، أحد قادة هذه الحركة، بشكل خاص عمليات مثل ثنائي كرومات الصمغ للحصول على تأثيرات تذكرنا باللمسات الانطباعية. تكشف هذه الحركة عن رغبة المصورين في تحرير أنفسهم من الاستنساخ الميكانيكي البسيط للواقع والدخول إلى المجال الفني من خلال
استلهام الصباغي.
كما أدى ظهور التصوير الفوتوغرافي إلى تحرير فن التصوير من بعض التزاماته التقليدية، لقد عتقته من عقال الأكاديمي والمهاراتي المفرط في صلابة قيود المدرسي. من خلال دعم التمثيل الصادق للواقع، سمح التصوير الفوتوغرافي للفنانين بالمغامرة في مناطق أكثر تجريدًا، وقاد بعضهم للتعبير عن انطباعاته الداخلية وتحرير روحانيته وإعلان خلاص العين والفن من التقليد والمحاكاة. استغل بول سيزانن على سبيل التمثيل، ظهور التصوير الفوتوغرافي للتركيز على اللون والشكل، بدلاً من التمثيل المحاكى للعالم. كان هذا التغيير بمثابة نقطة تحول رئيسة في تاريخ الفن، مما مهد الطريق لحركات مثل الانطباعية والتجريد والتكعيبية والتعبيرية ولوحشية. اعتبر سيزان أن اللون، باختلافاته في كثافته، يقدم منظورًا أكثر ثراءً من ذلك الذي يوفره التصوير الفوتوغرافي بالأبيض والأسود في ذلك الوقت. هذا التحرر من قيود التمثيل الأمين للعالم المرئي سمح لفناني القرن العشرين باستكشاف أشكال تعبير أكثر حرية ورمزية، كما فعل فنانو حركة "الفارس الأزرق" (Blaue-Reiter)، ولا سيما كاندينسكي، الذين نبذوا تدريجيًا التمثيل التصويري لصالح التجريد.

الرسم والتصوير
يخبرنا بيامين "أن العصر الذهبي للتصوير الفوتوغرافي يتوافق مع العقد الأول من عمرها، المتعلق بنشاط هيل Hill وكاميرون Cameron، وهوغو Hugo ونادار Nadar". غير أنه في النصف الثاني من القرن العشرين، تكثف ذلك التبادل بين الوسيلتين.. حيث قام فنانون مثل جيرهارد ريختر Richter بإخفاء الخطوط الفاصلة بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي عمدًا. غالبًا ما يستخدم ريختر، الذي يمارس الرسم التصويري والتجريدي، الصور الفوتوغرافية كأساس للوحاته. تحاكي أعماله، التي غالبًا ما يتم إنتاجها بتنسيق كبير وبالأبيض والأسود، جماليات التصوير الفوتوغرافي مع الحفاظ على جودة تصويرية مميزة. يثير الضبابية المميزة للوحاته المسافة الزمنية والعاطفية، مما يخلق حوارًا دقيقًا بين عالم التصوير الفوتوغرافي والصوري.
ليس ريختر الفنان الوحيد الذي اكتشف هذا التفاعل بين الفنين. إذ استخدم رسامون آخرون، مثل بيير بونارد، التصوير الفوتوغرافي كمصدر للإلهام. في أعمالهم التقط بونارد بآلة كوداك، لحظات حميمة يتردد صداها في لوحاته. إن وحدة الرؤية التي تميز صوره ولوحاته تشهد على التأثير المتبادل بين الوسيطين. على الرغم من أن صوره ليست وثائق مباشرة لأعماله التصويرية، إلا أنها تشترك في حساسية مشتركة مع لوحاته، خاصة في معالجة الموضوعات الحميمة والعائلية.

الفن الحديث والمعاصر
ومن ناحية أخرى، وجد بعض المصورين في الرسم مصدر إلهام لتركيباتهم الفوتوغرافية. إن أعمال المصورين مثل ديزيري دولرون Dolron أو لاتيتيا مولينار Molenaar، الذين يستلهمون بشكل مباشر من الفنانين مثل رامبرانت أو هوبر، توضح جيدًا كيف يستمر التصوير الفوتوغرافي في الحوار مع الرسم، من خلال استعارة عناصر التكوين والضوء ومعالجة الموضوعات، مثلما نشهد في أعمال الإيرانية شيرين نشات، التي تمزج بين الفوتوغرافي والتشكيلي-الكتابي، في نوع من مسرحة مشهدية عامرة بالدلالة وقابلية التأويل المفتوح على العصر وهموم المرأة.
وهكذا، اتسمت العلاقة بين التصوير الفوتوغرافي والرسم بالتأثير المتبادل المستمر، حيث أثرى كل منهما بابتكارات واستكشافات الآخر. سمح هذا الحوار لهذين الشكلين الفنيين بتجاوز حدودهما، مع الحفاظ على تفردهما. وإذا كان التصوير الفوتوغرافي قد حرر التصوير الصباغي من قيود التمثيل الواقعي، فإنه وجد أيضاً في هذا الفن أنموذجاً يرفع من مكانته ويؤكد إمكاناته الفنية. من خلال أعمال ريختر وكوربي وبونارد والمصورين الفوتوغرافيين، نرى كيف شكلت هاتان الوسيلتان الفن الحديث والمعاصر، مع الاستمرار في التشكيك في مفاهيم الواقع والتمثيل والإبداع الفني.
لكنّ العلاقة بينهما تتجاوز التقنية. إنها علاقة تتجذر في عوالم المشاعر الإنسانية. كيف يمكن للعدسة أن تلتقط الحب أو الفقد؟ كيف يستطيع القلم أو الريشة أن يحكيا عن لحظة الألم؟ الفوتوغرافيا والرسم يحاولان، كل بطريقته، أن يصلا إلى ذلك السر العميق في الروح البشرية. كل صورة تلتقط أو ترسم هي محاولة للقبض على لحظة تفلت دائمًا.
ربما هنا تكمن معضلة الفوتوغرافيا والتصوير الصباغي: كلاهما يسعيان لأن يمسك بما لا يمكن الإمساك به. في العتمة العميقة للغرفة المظلمة
(chambre obscure).