هل اللغة العربيَّة قادرة على إنتاج أدبٍ وفكرٍ صالحين لمخاطبة العالم

ثقافة 2024/10/23
...



صفاء ذياب




على الرغم من التاريخ الطويل للغة العربية، وسبقها للعديد من اللغات الحيّة اليوم، غير أنَّ للسلطة التي وجّهها الاحتلال الذي بدأ منذ القرن السابع عشر وحتَّى يومنا هذا غيّر الكثير من مراكز اللغة في العالم. فكما كانت للغتين البرتغالية والإسبانية سلطة في مناطق الشرق الأوسط وأميركا الجنوبية قبل قرون لأنّها كانت السبّاقة في الاكتشاف والاحتلال، غير أنَّ سلطة اللغة هذه تراجعت أمام سلطتين طغتا على الشرق الأوسط والعالم ككل، وهما اللغتان الإنكليزية والفرنسية، حتَّى أصبحتا اللغتين الرسميتين في أغلب دول العالم حتَّى وقت قريب.


وبهذا تمكّن الاحتلال من فرض سلطة أخرى، لم تكن سياسية، بل ثقافية، وزراعتها في عقول دول كاملة لتشكّل تبعية واضحة الثقافة لهاتين اللغتين، وليس الدولتين اللتين احتلتا المنطقة بالكامل فحسب.

 من هنا، بدأت دعوات كثيرة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للالتفات إلى اللغة العربية ومركزيتها في ثقافتنا المشرقية والإسلامية على حدٍّ سواء، لاسيّما بعد الاختلاط الكبير الذي حدث بين ثلاث لغات متجاورة، وهي العربية والفارسية والتركية، بسبب الاحتلالات اللانهائية لهاتين اللغتين لأراضينا.

إلاّ أنَّنا في وقتنا هذا، بدأنا بالنظر إلى لغتنا من جوانب مختلفة، وهي جوانب التطوّرات التقنية والتكنولوجية المتسارعة حالياً، ومساحة اللغة العربية على الانتشار مجدّداً.

وبحسب الدكتور جابر قميحة اللغة العربية تعدُّ من أغنى لغات العالم بالمفردات والمترادفات، ولا يدل على مرونة اللغة العربية، واتساعها وشموليتها كثرة مفرادتها- التي تعدّ بمئات الألوف- فحسب، ولكن يدل على ذلك أيضاً كثرة الروافد، والطرائق التي تغذّي اللغة العربية، وتسمح لها بالتوليد والإضافات. كالقياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب، وغيرها. وهذا يعني أنَّها لغة مفتوحة للتواصل الدائم على مدى العصور، وأنَّ باب الاجتهاد فيها لم يغلق، ولن يغلق. وقد تحدّث اللغويون عن خصائص اللغة العربية وتفرّدها في جوانب كثيرة، وتفوّقها على كثير من اللغات الأخرى في هذه الجوانب، وذلك في دراسات مقارنة متعدّدة.

ويحدّث قميحة عن مظهرين من مظاهر القدرة الذاتية في اللغة العربية وهما:

- دقّة الفروق بين كثير من كلمات العربية ممَّا يعتقد كثيرون أنَّها مترادفة، أي متساوية تماماً في المعنى.

- الدقّة في الاستيعاب، وتعريف المسمّى بأنواعه كلّها؛ التعريف الجامع المانع، الذي لا يترك زيادة لمستزيد.

غير أنَّ هذه الأهمية لا تسعف لغتنا العربية على أن تكون لغة الخطاب بالعالم- ما عدا العالم الإسلامي بالتأكيد، وفي ظلِّ التحوّلات التي طرأت على العالم بسبب التقنيات الحديثة، كيف يمكن أن تصل لغتنا، من خلال الإبداع عموماً إلى العالم.

أو في تساؤل آخر: في ظل سطوة لغات بعينها في الأدب والثقافة. كيف ترى قدرة اللغة العربية على إنتاج أدب وفكر صالحين لمخاطبة العالم؟

شفرة اجتماعية

يؤكّد الدكتور سعيد الجعفر، أستاذ اللسانيات في جامعة ذي قار، أن النقّاد تحدّثوا كثيراً عن تساؤل كيف تخاطب لغة ما العالم. والمطّلعون على آداب الأمم المختلفة، سواء من خلال الترجمة أو القراءة المباشرة، يعلمون أنَّ الشعراء والروائيين، فضلاً عن مبدعي الموسيقى والتصوير والسينما، كانوا لدى هذه الأمم ينطلقون من المحلّية ليخلقوا منها بُعداً أمميّاً. فديستويفسكي مثلاً انطلق من الشخصية الروسية ليخلق ملاحم تجيب على الأسئلة الخاصة بالوجود الإنساني الغائر في العمق وتكتنه سر المسائل الأنطولوجية الكثيرة. نيرودا أيضاً وماركيز خاطبا العالم منطلقين من قراهم والتفاصيل الأنثروبولوجية الثرّة فيها. وقد يكون نجيب محفوظ أحد أهم من انطلقوا من المحلية ليخاطبوا العالم، في زمن انشغل فيه كتّاب الرواية والقصّاصون العرب بما انبهروا به من تقنيات غربية، أساسها الوقوع في إسار المركزية الغربية يبقى موضوع مخاطبة الآخر موضوعاً شائكاً لدينا، فنحن مكبّلون بالأفكار النمطية والأفكار المسبّقة عن الآخر، ممَّا يجعلنا في وضع كسيح في موضوع التعامل مع الآخر. وقد تكون الأجيال التي سبقت الانكفاء على الذات، بعد نكسة حزيران، أفضل في مخاطبة الآخر. فالكثير من المفكّرين والكتّاب والشعراء تعلّموا لغات أجنبية وعاشوا بين ظهراني شعوب الغرب فعرفوا الشفرة الاجتماعية، وعلموا كيف يحدّثون الغرب عن الإسلام والعرب وفلسطين. نحن اليوم أحوج إلى أدوات كثيرة لمخاطبة الآخر أوّلها معرفة اللغات والمعايشة والترجمات، وأن نفهم حقيقة أنَّنا جزء من عالم يصغر ويصغر ليغدو قرية صغيرة، وإن افترضنا أنَّ الغرب عدوّنا فلنتيمّن بالقول المشهور اعرف عدوك أو الحديث النبوي من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم.

عجز الناطقين

ويشير الدكتور محمد جري جاسم، أستاذ السرد في جامعة واسط، إلى أن للغة العربية، وبما تحمله كلّه من حمولات فكرية وعقائدية، مرجعية إلهية كان لها الفضل- على الرغم ممَّا تكتنزه/ اللغة من مقوّمات مرونة واتساع لكلِّ ما هو جديد- في أن تكون لها مركزيتها العالمية، لاسيَّما في ظلِّ الاتساع والامتزاج مع الأمم الأخرى وثقافاتها، غير أنَّ تلك المركزية بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً، بعد أن ضعفت الأمة المتحدّثة باللغة العربية، وما رافق ذلك من احتلالات حاولت طمس الهوية العربية ككل، وليس اللغة العربية فقط، وعلى مر التأريخ، من سقوط بغداد سنة 656هجرية وإلى يومنا هذا، على الرغم من أنَّ الخطر الحالي الذي تواجهه العربية هو أكبر بكثير من السابق، يتحدّد هذا الخطر بالعولمة وما تنتجه من أيديولوجيات تعمل على تمرير ثقافة جديدة، ولغة عالمية بدأت تهيمن على الثقافة واللغة العربية بشكل ملحوظ، فبدأت تكثر المخاطبات اليومية باللغة العالمية للمركزيات الكبرى/ الدول الكولونيالية العظمى، على حساب ضعف مركزية اللغة العربية، سواء كانت تلك المخاطبات في العالم الواقعي أو الافتراضي، يرافق ذلك نشوء جيل جديد قد أَلِفَ تلك الممارسات العالمية وتماهى معها تماماً، وتشرّبها بشكل واضح في ممارساته وسلوكياته ومخاطباته..

مضيفاً: من أجل ذلك يبدو ضعف اللغة العربية على إنتاج أدب وفكر عالميين، وليس ذلك قصوراً في اللغة نفسها، بل هو قصور في المتحدّثين بها الذين ظلّوا منبهرين بعالمية لغات أخرى، ولم يمكّنوا أنفسهم من جهد رفد عالمية اللغة العربية في الأدب والثقافة بشكل عام.

إلهام الخطاب السماوي

وبحسب الشاعر الدكتور مسلم الطعان فلا شك أنَّ اللغة العربية بدأت تحتل مكانتها العالمية الرصينة بوصفها إحدى اللغات الستّ ذات المرتبة المتقدّمة في منظمة الأمم المتحدة. وذلك الأمر لم يأتِ من الفراغ لأنَّ للغة العربية مكانة مهمّة بين لغات العالم بوصفها لغة حضارة وإرث ثقافي وديني كبير، فتكاد تكون اللغة الوحيدة التي جمعت بين إلهام الخطاب السماوي والتلقّي الأرضي ذي الخزين البلاغي والشعري، إذ تشرّف قومها بأن تكون تلك اللغة مادة الإعجاز القرآني الذي زوّدها بطاقة بلاغية سماوية، وكان لها المستودع الجمالي الذي حافظ عليها من الضياع والتلاشي بين اللغات ذات الهدف الإقصائي والكولونيالي، وكانت تربة تشكلّها الأرضي تربة خصبة لنمو أشجار الشعرية العربية التي رفدتها بروافد البلاغة والتصوير الشعري المجازي الذي جعلها تتفوّق على شعريات اللغات الأخرى.

ويضيف الطعّان إنَّ انتشار الدين الإسلامي في أصقاع واسعة من العالم جعل للغة العربية جغرافيا جمالية مترامية الأطراف، إذ أثرت لغات حضارات متعاقبة كالفارسية والتركية والأوروبية والآسيوية حيث انتقلت عبر القنوات الدينية بوصفها لغة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي زوّدت الإنسانية بدروس روحية ومعرفية في غاية الأهمّية، وأثرت الخطاب الإنساني بزادها البلاغي والصوري المُنبجس من معجم مجازي ثري. للغة العربية سحر أدبي وجاذبية موسيقية سحرت وجذبت الكثير من العلماء والأدباء والفلاسفة من غير العرب الذين برعوا في تأليف الكتب العلمية والأدبية بتلك اللغة مثل ابن سينا والفارابي وسيبويه والقائمة تطول، ولو أحصينا المفردات العربية التي أصبحت جزءاً من النسيج اللغوي للكثير من لغات العالم، لوجدنا أنَّ اللغة العربية تمتاز بحضورها الثري، وقديماً وحديثاً كان ولم يزل موقع الأمة الناطقة بتلك اللغة وجغرافيتها الاقتصادية الهائلة قبلة أنظار طلاب العلم والمعرفة فأصبحت تُدرس في أرقى الجامعات الأوروبية والأميركية والآسيوية، وعلى هذا الأساس تكون للغة العربية القدرة الكبيرة على إنتاج أدب غزير وفكر معرفي رصين يخاطب العالم بخطاب إنسانيّ وجماليّ يقرّب المسافات بين ثقافات وحضارات العالم.

انحسار العقل العربي

ويرى الشاعر فراس طه الصكر أنَّ اللغة العربية ليست قاصرة بحدِّ ذاتها على إنتاج أعمال أدبية وفكرية وثقافية باللغة العربية بإمكانها مواجهة التحدّيات إزاء هيمنة الأعمال الأدبية والفكرية المكتوبة باللغات الأخرى، فهي قادرة على مواجهة التحدي باعتبارها لغةً لا أكثر. ولكنَّه يعتقد أنَّ الأزمة هي أزمة ثقافة وأزمة فكر وأزمة إبداع وليست أزمة في قابلية هذه اللغة على إنتاج الفكر والأدب، وعلينا أن نتذكّر أن أكبر وأجمل الأعمال الأدبية باللغة العربية كانت من نتاج أدباء ومفكّرين كبار كجبران خليل جبران ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف ومحمد خضير ويوسف إدريس وابن خلدون ومحمد عابد الجابري والقائمة تطول، فضلاً عن الشعر العربي بجمالياته وبلاغياته العظيمة، ولم تكن اللغة العربية عاجزة عن أن توفّر المحتوى الإبداعي لإنتاج هذه الأعمال الأدبية الكبرى، وتأسيساً على ذلك فإنَّ جوهر المشكلة يكمن في انحسار العقل العربي عن إيجاد مكامن الإبداع وإنتاج أدب وفكر وثقافة بإمكانها أن توازي ما تنتجه اللغات العالمية الأخرى. فعلى صعيد الإنتاج الأدبي والثقافي العربي نجده غزيراً، ولكنَّه في المحصلة النهائية ذو قدرة إبداعية محدودة لأنَّ العقل العربي الآن لا يمكنه أن يوازي أو ينافس العقل- الآخر- بما ينتجه من أعمال أدبية وفكرية مهمّة، وهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن نعدّه قصوراً في قدرة اللغة العربية على إنتاج أدب وفكر صالحين لمخاطبة العالم. فالعقل العربي هو الذي يعيق إنتاج مثل هذه المنظومة الإبداعية والفكرية التي بإمكانها أن توازي أو تنافس أو تواجه الإبداع الفكري والأدبي والثقافي العالمي. وخير دليل على ذلك أنَّنا أمّة لم تعدّ مهتمة بالقراءة كالسابق كما تشير إلى ذلك عديد الإحصائيات المختصة التي أشّرت بشكل واضح وجلي انحسار فعل القراءة في المجتمعات العربية وبشكل مخجل جدَّاً.


ويختتم القاص والروائي عزيز الشعباني حديثنا بعدة تصريحات خاصة، مستثمراً هذا التحقيق، “أعلن عن أنَّني كاتب لا واعٍ، غير واعٍ إلى مدى بعيد... لا يشغلني موضوع اللغة وكيف يخلق أدباً قادراً على مخاطبة العالم، ولا أفكّر فيه، يعجبني أن أحتفظ بالقدرة على مفاجأة نفسي من حين إلى آخر”. 

ويبين الشعباني أنَّ اللغة بالنسبة له محض أداة، ليست العالم في ذاته، الأداة الوحيدة التي نملكها لفهم العالم، لكن علينا أن ننتبه أنَّها ليست مرادفاً للعالم، الأدهى من ذلك أنَّها قد تحرمنا بشكل ما إياه، اللغة تبسّط وتمنهج، بمعنى أنَّها تحدٍّ.

موضحاً أنَّ عالم إدراكاتنا معقّد جداً، أشياء لا تحصى تتدفّق إلينا في اللحظة الواحدة، لذلك فإنَّ كلَّ وضع أو كلَّ حالة شعورية، أو كلَّ لحظة وجدان نعيشها، لابدَّ أن تكون أبعد من متناول الكلمات، اللغة السلاح الذي نحاول به أن نطال العالم وأنفسنا، لكنَّها تبقى، برأيي، محض تخمين أو توقّع أو مقاربة.

ماذا يفعل الشعراء؟ 

ماذا يفعل الروائيون؟ 

إنَّهم فقط يدوّنون الكلمات على نحوٍ يجعلها توحي بالأشياء الغامضة كلّها، التي لا يمكن التعبير عنها قط، أي أنَّها، الكلمات أقصد، توحي إلى ما هو أبعد منها وتلمح إلى وجوده. 

هذا هو العالم، ليس ما نكتبه، بل ما لا نكتبه، ما نعجز عن فهمه.

خذني مثلاً، لا أعرف كيف تولد قصصي، ولا أعرف الدافع إليها، وكيف يخاطب العالم، لكنَّي حين أنهيها أشعر أنَّ النصّ يفوق اللغة ذكاءً، ثمَّ في مرحلة ما يفلت من قبضتي.

ألم أقل لك منذ البداية أنَّني كاتب لا واعٍ!