بين المستشرقين ومنتقديهم.. الانقسامُ المستمرّ
سيد آهاز عاطف(*)
ترجمة. د فارس عزيز المدرس
تُعرِّفُ دائرةُ المعارف الإسلامية The Encyclopedia of Islam المستشرقين في حقل الدراسات الإسلامية بـأنَّهم:(العلماءُ الغربيون المحايدون؛ دارسو الإسلام ومجتمعاته وثقافاته، سواءٌ أكانوا من أصول غربيَّة؛ أو من أصول إسلامية أو غير إسلامية). وفي الوقت الحالي جرى تعديلُ هذا التعريف بشكلٍ غيرِ رسميٍّ ليشملَ “غير الغربيين” و”المسلمين” العاملين “في مكان آخر”.
تعترف دائرةُ المعارفِ الإسلامية بأنَّ هذا التعريف قبل القرن العشرين كان يشير إلى “العلماءِ الغربيين غير المسلمين” فحسبُ، ويعكس هذا التعريفُ المحدث تغييراً محورياً في فهم المستشرقين طبيعةَ مجالِهم؛ الذي نتج جزئياً عن الكتاب الثوري لإدوارد سعيد “الاستشراق”.
وعلى الرغم مِن هذا الإرث التحويلي لمفهوم الاستشراق تشير الدكتورة دونا لاندري إلى أنَّ “خطابَ الاستشراق، وآلياتِه في تصنيع شرق فيلولوجي وإصدار البيانات عنه؛ والحكم عليه لا يزال مستمراً بوتيرة سريعة”. ونتيجة لهذا لا يزال هناك انقسامٌ صارخٌ بين المستشرقين وغيرهم في مجال الدراسات الإسلامية، ويتجلَّى هذا الانقسام إلى حدٍ كبيرٍ بين العلماء المنتمين إلى الغرب والعلماء المنتمين إلى الشرق. وقد اخترتُ أن أقولَ (المنتمين إلى)؛ لوجود العديدِ من الأصوات في الأوساط الأكاديمية الغربية لديها خلفيات شرق أوسطية أو إسلامية، وفي ما يلي تاريخٌ موجزٌ للاستشراق، وتأثير ما قدمه الدكتور سعيد في هذا المجال، مع إلقاءِ نظرةٍ على أقطابِ هذا الانقسام.
في موسوعةِ الإسلام تقدِّمُ الدكتورة واردنبورج جدولاً زمنياً لتطور الاستشراق، ويمكن القولُ إنَّ تاريخَ دراسةِ الإسلام من لدن الغرب ترجع أصولُه إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ إذ قامت بدراسةِ الإسلام في محاولة منها للتعرف على “الخصم الأكبر” للكنيسة، وهي الصورة التي أصبحت شائعةً في القرن الحادي عشر. لقد استمرَّت دراسة محدودة للإسلام من لدن الأوروبيين حتى سقوط القسطنطينية؛ عام 1453 عندما شعر الأوروبيون بحاجةٍ أكبر لفهمِ الإسلام والمجتمعات الإسلامية؛ بسبب قربِ الإمبراطوريةِ العثمانية، والاحتياجات السياسية والاقتصادية المتمخِّضة عن ذلك. ونتيجةٌ لهذا أنشئتْ أقسامُ الدراساتِ العربية والإسلامية في الجامعات الأوروبية، وطوال هذا الوقت كان هناك جوٌ مِن معارضة الإسلام في تلك الجامعات التي كانت دينيَّة بشكل ملحوظ.
لكنَّ هذا الموقفَ العدائي بدأ يتغيَّر بعد فشل الحصار العثماني لڤيينا عام 1683 إذْ لم يعد العثمانيون يشكلون تهديداً لأوروبا، وبذا فقد الإسلامُ صورتَه كتهديدٍ خطير للمسيحية، وكقوة عظمى، لذلك أصبح النهجُ المتّبع في دراسة الإسلام يقوم على الاهتمام؛ بدلاً من المعارضة. وعلى مرِّ القرون أدَّى هذا التغيير في النهج إلى ظهور أنواعٍ جديدة مِن الكتب عن الإسلام، وإنشاء مؤسسات للتدريس العملي للغات الشرق أوسطية. واستمر هذا حتى القرن التاسع عشر، إذ انتشرت الدراسات الإسلامية بدافع الوصول إلى الأدبياتِ التاريخية الإسلامية والمخطوطات. وكان السببُ الآخرُ وراء هذا النمو هو التنظيم الأكبر للجامعات والوفرة في مِنحِ البحث في تلك الحقبة في كلٍّ من أوروبا والولاياتِ المتحدة.
بعد الحرب العالمية الثانية تغيَّرت أقسامُ الدراسات الشرقية في أوروبا وأميركا بشكلٍ كبير؛ فبدأت الجامعات أولاً: بتعيين باحثين من الدول الإسلامية نفسها، ثانياً: صارت مجالات البحث أكثر تحديداً؛ بحيث لم يعدْ من الممكن أن يكون المرءُ باحثاً في مجال الدراسات الإسلامية بالكامل كما كان ممكناً في الماضي. وثالثاً: اكتسب المستشرقون وجهاتِ نظرٍ جديدة حول الإسلام والمسلمين؛ من خلال الاستقلال السياسي الإسلامي المكتسب حديثاً؛ فضلاً عن تأكيد المسلمين على هويتهم واستقلالهم. ومع هذه التغييرات ذاتِ المغزى كان هذا هو وضع الاستشراق والدراسات الشرقية حتى اللحظة الفاصلة عام 1979، والتي سأشرحها بإيجاز.
بالانتقال إلى عام 1979، واجه عالمُ الدراسات الغربية لـ “الشرق” صحوةً قاسيةً عند نشر العمل الضخم لإدوارد سعيد، (الاستشراق). في هذا العمل انتقد سعيد الفهم الغربي للشرق؛ من حيث التاريخ والثقافة والسياسة، وكشف عن الدلالات الإيديولوجية الخطابية التي أصابت التمثيل العام والأكاديمي لـ “الشرق” المثالي”. وبعبارة أخرى؛ كان مجالُ الدراسات الشرقية فاسداً ومشحوناً بالعنصرية التي اعتبرت “الشرق” موضوعاً متخلفاً للتحقيق، وتجاهل التجارب والتصورات الحية لـ “الشرق”.
رأى سعيد الاستشراقَ بوصفه “إيديولوجية تفوُّقيَّة؛ غربية لتبرير الهيمنة على الشرق”، وقدم أدلةً على ملاحظاتِه على شكلِ أمثلة من مجموعة متنوِّعة من عصر التنوير، ووجِدت في جميع أنحاء أوروبا، وراح يعمِّم الاتهام بأنَّ المستشرقين- بوصفهم “باحثين عن الحقيقة” - متواطئون في نشرِ التفوق الغربي والعنصرية في دراساتهم، وذهبوا إلى حدِّ مساعدةِ الحكومات الغربية في جهودها الاستعمارية.
كان ردّ الفعل على كتابِ الاستشراق في أوروبا عنيفاً، مما أدَّى إلى مراجعاتٍ قاسية، بينما في أميركا كان العكس تماماً، إذ أصبح الكِتاب من أكثر الكتب مَبيعاً، وألهم العديدَ من المشاركات الأكاديمية بمحتوياته، واتخذه الأكاديميون الأميركيون الصِغار الذين يميلون إلى الإيديولوجيات اليسارية وما بعد الحداثة والاستعمار بمثابةِ بيانٍ لهم لتحدِّي كبارهم، والوضع الراهن في الأوساط الأكاديمية. وفي الواقع بدأ قسم من كبار الأكاديميين الأميركيين يعترفون بأنهم كانوا معصوبي الأعين لبعض الوقت؛ بسبب “العمى المعرفي الذي أطلق عليه سعيد اسم “الاستشراق”. كما غيّر الكتاب تركيبةَ أقسام دراسات الشرق الأوسط في جميع أنحاء أميركا من حيث تعيين المزيد من العلماء العرب والمسلمين في مناصب عليا، بل ومنْحهم الأفضلية على الذين ليس لديهم أي خلفية في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإنَّ محاولة استبدال تسمية (استشراق) بالدراسات الشرقية أو ما شابه فشلت، للأسبابِ ذاتها التي أعطت الاستشراق حمولات سلبية.
ونظراً للتأثير الدائم الذي خلفتْه أعمالُ سعيد فمِن الطبيعي أن يكتبَ المستشرقون خُطباً تنتقد ادعاءاته وتدافع عن مجال دراستهم. ومن بين هؤلاء المستشرقين يبرز مؤلفان في هذا الصدد؛ أحدُهما الدكتور روبرت إروين وكتابه “من أجل شهوة المعرفة: المستشرقون وأعداؤهم”، والآخر ابن وراق (اسم مستعار) وكتابه “الدفاع عن الغرب؛ نقد فيه كتابَ الاستشراق، وخصَّص فصلاً لدحض الزعم بأنَّ الاستشراقَ مليءٌ بالأخطاء والتحريفات، ثم خصص بقية كتابه لمناقشة الأعمال المهمة التي أنتجها المستشرقون والتي تجاهلها سعيد، وفي النهاية زعم أنَّ المستشرقين لم يكونوا ممكِّنين للإمبريالية؛ بل علماء لديهم شغف عميق بالتعلم عن “الشرق”.
ومن ناحية أخرى يتهم عملُ ابن وراق سعيداً بتشويه الحضارة الغربية في مجملها. إنَّ كتابه يزعم أنَّ الغربَ يسترشد بثلاثةِ قيم أساسية مفقودة في “الشرق”: العقلانية، والعالمية، والنقد الذاتي. وعلى الرغم مِن أنَّ الحجة في كلا العملين واردةٌ فإنَّ ما لا يمكن إنكاره هو التأثير الثوري الذي أحدثه كتاب سعيد. ومع ذلك فإنَّ العمَلين المذكورين فضلاً عن أعمال أخرى، تثبت أنَّ الاستشراق الذي كتبه سعيد لم يُسكت أنصار هذا المجال وأنَّ الانقسامَ بين المستشرقين ومنتقديه بقيَ مشتعلاً.
في عملِه المذكورِ أعلاه للدفاع عن الاستشراق يقدم الدكتور إروين قائمةً بـ”أعداء” الاستشراق. وهذه القائمة مفيدةٌ لأنَّها تزودنا بأولئك الأفراد والأكاديميين الذين كان نقدهم للاستشراق كبيراً بما يكفي؛ لتبرير اكتسابهم لقب “عدو”. وهذا يدل على أنَّه إلى جانب الدكتور سعيد في القرن العشرين انتقد العديدون قبله وبعده الاستشراق، مما أدى إلى تعميق الانقسام بين الجانبين من المستشرقين ومنتقديهم.
وفي ما يلي نظرةٌ موجزة على بعض هؤلاء وانتقاداتهم، الأول هو المؤرخ والصحفي محمد كرد علي (1876 - 1953م) الذي كان من أوائل الذين تحدوا نهج المستشرقين، وكتب عملاً من مجلدين؛ في محاولةٍ لتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى المستشرقين بعنوان الإسلام والحضارة العربية. كما دحض المفاهيم الخاطئة بأنَّ العرب غير علميين بطبيعتهم. وفي عصر كرد علي نفسه كان هناك ناقدٌ آخر للاستشراق وهو اليهودي البولندي المؤثر الذي اعتنق الإسلام، محمد أسد (1900 -1992م)، استخدم مهاراتِه الأدبيةَ كصحفي في كتابه الإسلام عند مفترق الطرق؛ دافع فيه عن الإسلام وتتبع عنصرية المستشرقين وإمبرياليتهم وعداءهم إلى الحروب الصليبية. وكان رينيه جينون (1886 - 1951م) من المتحولين الآخرين؛ كتب كتابَ الشرق والغرب، انتقد فيه أخطاء المستشرقين وفشلهم حتى في محاولة فهم النصوص الإسلامية، وعدم استشارةِ الشعوب التي كانوا يدرسون حضاراتها.
ومن بين نقّادِ الاستشراق المسلمين آنذاك سيد قطب (1906 - 1966م)، والمتحولة مريم جميلة (1934 - 2012م)، والمؤرخ طيباوي (1910 - 1981م). وقد تأثر الطيباوي بكتابات كرْد علي فكتب مقالاتٍ قاسية تندِّد بكيفيةِ تدريس الإسلام من لدن المستشرقين، وكيف أخفى المستشرقون أجندةً سياسية وراء أبحاثهم، وكيف لم يضم المستشرقون الأكاديميينَ المسلمينَ المعاصرين كمسهمين في أعمالهم الموسوعية. وزعم البعضُ أنَّ سعيداً استقى الكثير مِن كتابات الطيباوي؛ وإن لمْ يعترف.
ومن بين النقاد المسلمين المعاصرين سيد حسين نصر، والأكاديمي والمتحول حميد الجار فضلاً عن نقادٍ علمانيين، ويشمل هذا المؤرخ عبد الله العروي الذي استهدف مستشرقين محددين بسبب مناهجهم الأكاديمية، والعالم السياسي أنور عبد الملك الذي أدان “تمييز” المستشرقين للإسلام. ويلاحظ الدكتور إروين أنَّ الدكتور سعيد استقى الكثير من العروي وعبد الملك أيضاً.
بعد كتاب الاستشراق لسعيد استلهم العديدُ من العلماء المسلمين مواجهة المستشرقين بمناهج مختلفة؛ فتحدى أكاديميون كضياء الحسن فاروقي وأحمد غراب وضياء الدين سردار الاستشراق من موقف إسلامي مثير للجدل، وألفوا العديدَ من الأعمال لهذا الغرض. ومن ناحية أخرى، اتخذ آخرون مثل الدكتور فضل الرحمن (1911 - 1988م) والدكتور محسن مهدي (1926 - 2007) نهجاً أكثر أكاديمية من خلال تحدي منهجيات الاستشراق الدقيقة والمحددة. فـفضل الرحمن نقد “النهج الاختزالي الغربي” في فهم الإسلام، بحجة أنها نابعة من “الغطرسة الثقافية” الموجودة في الغرب، بينما انتقد مهدي غرور المستشرقين في إنتاج موسوعة الإسلام دون أي مدخلات من العالم الإسلامي.
إذن منذ زمن محمد كرد علي كانت هناك أصواتٌ معارضةٌ للنهج الاستشراقي السائد لدراسة الإسلام. ومن الجدير بالذكر أنَّ أغلبيةَ هذه الأصوات مسلِمة، أمَّا الأصوات القليلة غير المسلمة فهي من أصول عربية. وهذا يوضح لنا كيف يتلخّص الانقسام بين المستشرقين ومنتقديهم الرئيسين، وبين أهل الغرب وأهل الشرق، بغض النظر عما إذا كانوا يعيشون ويعملون في الغرب أم لا. ولا ينبغي لنا تجاهلُ هذه الحقيقة لأنها تكشف لنا أنَّ العلماء الغربيين ما زالوا بحاجةٍ إلى المزيد من النقد الذاتي؛ إذا ما أرادوا تجاوزَ أخطاء أسلافهم المستشرقين.
وبغضِّ النظر عن الاتهاماتِ التي وجهها سعيد للاستشراق فما زال هناك وفرةٌ مِن الانتقادات لكتاباتِ غيرِ المستشرقين، وأحدُ الانتقادات الرئيسة التي توجَّه إلى هذه الدراسات افتقارُها إلى الأدوات المناسبةــ مثل إتقان اللغة العربيةــ والمعرفة الأساسية بالعلوم الإسلامية لاستخلاص استنتاجات دقيقة. وثانياً تفتقر هذه الدراسات إلى التعاطف والتواضع والاستعداد لفهم موضوعها المتعلق بالمسلمين بشكل صحيح. وثالثاً، تفتقر إلى دافع تحسين حالة الناس والمجتمعات التي تدرسها، بل على العكس تستخدم القوى الإمبريالية الجديدة دراساتِها لتقويض الإسلام ومجتمعاته بشكل أكبر. ورابعاً، لا تتضمَّن هذه الدراساتُ مشاركة المسلمين ووجهات نظرهم، كما ذكرنا آنفاً. وإذا كانت تتضمن المسلمين فإنها تختار أولئك الذين ينساقون مع الإيديولوجية الغربية، وكل هذه ليست انتقادات ثانوية، وبالتالي لا يمكن رفضُها بوصفها اتهامات جدلية من لدن مسلمين مستائين فحسبُ.
ولكي نفهم الانتقادات التي يوجهها غير المستشرقين إلى الاستشراق، فلابد أن ننظرَ إلى ما كتبه الدكتور مظفر إقبال، مؤسس ورئيس مركز الإسلام والعلم في كندا، وأحدُ أبرز نقّاد الاستشراق في العصر الحديث. ففي مراجعتِه لـ”موسوعة القرآن الكريم”، التي حررتها الدكتورة جين ماكوليف، يبرز الدكتور إقبال العديدَ من انتقاداته للمستشرقين. يقول:
لم تعد الكتاباتُ الأكاديمية الحالية عن الإسلام حكراً على المستشرقين السابقين، إذ انتشرت دراسةُ الإسلام إلى جانب الديانات الأخرى في الأقسام الجديدة نسبياً؛ فضلاً عن أقسام الدراسات الإقليمية، وأقسام اللغات والأدب في العديد من الجامعات البريطانية والأوروبية وأميركا الشمالية، ولها روابط وثيقة مع الاستشراق في الماضي.
ويرى الدكتور إقبال أنَّ دارسي الإسلام غير المسلمين الحاليين يعتمدون على حجج أسلافِهم، أي المستشرقين الأصليين، الذين اعتمدوا بدورهم على الأعمال الجدلية في العصور الوسطى. وبعبارة أخرى يرى أنَّ ادعاءهم الحياد لا أساس له من الصحة؛ بسبب حقيقة أنَّ أعمالهم تتضمن تحيزات وعنصرية أسلافهم. والأكاديميون الغربيون المعاصرون فشلوا في أخذ وجهات نظر المسلمين في الاعتبار. ويوبِّخ محررَ مجلة EQ لادعائه بأنها دراسات تمثل “تعددَ وجهات النظر” في حين أنَّ 20 % فقط من المسهمين هم من المسلمين، والذين يزعمون أنهم مسلمون.
وتشمل الانتقاداتُ الأخرى التي أبرزها الدكتور إقبال عدمَ الإلمام بالمواد المصدرية الإسلامية وبالتالي الاعتماد على المصادر الثانوية؛ فضلاً عن تجاهل التسلسل الهرمي للمعرفة والسلطات في الإسلام. كلُّ هذه الانتقادات التي وجهها الدكتور إقبال مهمة، وتتطلَّبُ قدْراً كبيراً من إعادةِ التقييم.
وعلى النقيض من العاملين في مجال الدراسات الإسلامية في الأوساط الأكاديمية الغربية اليوم فإنَّ الدكتور أندرو ريبين واحدٌ من القلائل الذين يظهرون مستوًى من الوعيِ بالانتقادات الموجهة للاستشراق والانقسام الناتج بين المعسكرين؛ على الرغم مِن حقيقةِ كون غير المستشرقين مثل الدكتور جبريل فؤاد حداد اتهموا ريبين بالوقوع فيما وقع فيه المستشرقون القدامى، ففي محاولته إيجاد تعريفٍ للمنح الدراسية الغربية يتجنّب اتهام الاستشراق، ويعرِّف هذه المنح بأنها “البحثُ النقدي غير العاطفي عن المعرفة، وغير المقيَّد بأولوياتِ المؤسسات الكنسية”. لكنَّه يعترف أنَّ “هذه” المنح الدراسية “مدفوعة في الواقع بالعديد من المفاهيم والإيديولوجيات السياسية والاجتماعية التي لا يزال العديدُ منها يعكس روحَ العصور الاستعمارية”.
وبالعموم يحاول الأكاديميون تبرير استنتاجاتِهم التي قد يعترِض عليها المسلمون بهذا الادعاء السهل “عدم الاهتمام”، ويرى أنَّ الادعاءَ بأنَّ الإسلام يُدرس من منظور “علماني” غير دقيق؛ لأنَّ “العلمانية، مثل الدين موقف مرتبط بقيمٍ لا يكون الادعاء بالحقيقة العالمية فيها أكثر صحةً مما قد يكون في الدين نفسه”. ومن الإنصاف القول إنَّ هذه الأمثلة من النقد الذاتي لباحثٍ غربي جديرةٌ بالثناء ومصدرُ إلهامٍ للآخرين في هذا المجال.
وعن الاستقبال الذي تلقّته الدراسات الأوروبية الأميركية حول الإسلام من لدن المسلمين، يزعم الدكتور ريبين أنَّ الدراسات “الحقيقية” قد تشوّهت بسبب “النهجِ شبه الأكاديمي المعادي للإسلام” الذي يبدو أكاديمياً؛ لكنه في الواقع مثيرٌ للجدال، وفي رأيه يلقي المسلمون الشكوك بشكل غير صحيح على الدراسات الأوروبية الأميركية حول الإسلام بالكامل؛ من خلال إعمام تفسير العمل الجدلي للأكاديميين المعادين للإسلام على أنه يمثل الكل. إنَّ ريبين يعترف بأنَّ هناك سبباً آخر لعدم الثقة هذا؛ يرجع إلى “الطبيعة أحادية الجانب للمشروع العلمي” والذي يفسره على أنَّه نتيجة لمعاملةِ موضوعاتِ البحث بوصفها “أشياء”.
وهناك منظور آخر للمسلمين يعترف به ريبين وهو أنهم يزعمون أنَّ غيرَ المسلمين لا ينبغي لهم أن يحاولوا تفسير الإسلام ونصوصه الدينية؛ لأنهم ملزمون بتشويهها. ويحاول مواجهة مثل هذه الادعاءات وغيرها من خلال الإشارةِ إلى أنَّ البحث في الإسلام بوصفه موضوعاً تاريخياً يحدث في أجزاء أخرى من العالم، وأنَّ العديدَ من الأكاديميين في الغرب هم مسلمون.
وفي الختام فإنَّ مجال الدراسات الإسلامية في الأوساط الأكاديمية الغربية له تاريخٌ إشكالي بدأ بجهود الكنيسة لفهم عدوها، وبلغ ذروتَه في المنهجيات العنصرية والإثنية المركزية للاستشراق. وعلى الرغم مِن أنَّ هذه المناهج تعرَّضت لانتقاداتٍ من علماء المسلمين في الماضي، إلا أنَّ هذا المجال لم يواجه المحاسبة الفعلية؛ إلا بعد صدور كتاب سعيد “الاستشراق”؛ إذ كشف عملُ سعيد عن التحيزاتِ المتأصِّلة في المناهجِ الاستشراقية التقليدية، وبالتالي عمل كحافز لإعادة تقييم المناهج الأكاديمية الغربية في دراسة الإسلام. وقد أثار هذا العملُ غضبَ العديدِ من المستشرقين المتشددين الذين عارضوا بشدة حجج سعيد.
ومن ناحية أخرى ألهم سعيد مسلمينَ آخرين لتبنِّي قضية انتقاد الاستشراق، والتي لا تزال مستمرةً حتى يومنا هذا، حيث لا تزال الدراسةُ الأكاديمية الغربية للإسلام تنضح بآثارِ المفاهيم والمنهجيات الاستشراقية. ونتيجة لهذا فإنَّ الانقسامَ بين المستشرقين ومنتقديهم لا يزال قائماً؛ على طول الخطوط الإقليمية والثقافية للغرب والشرق. وتمتدُّ الانتقاداتُ الموجهة للاستشراق إلى ما هو أبعدُ من المناهج الأكاديمية؛ لتشمل قضايا الكفاءة اللغوية، والحساسية الثقافية، وتمثيل الأصوات المتنوعة. ومع استمرار هذا الخطاب، يتعيَّن على العلماء الانخراط في التأمل الذاتي، والاعتراف بتعقيدات مواقفهم، وتعزيز حوارٍ أكثر شمولاً واحتراماً في السعي إلى فهم شاملٍ للدراسات الإسلاميِّة.
(*) سيد آحاز عاطف Syed Ahaz B. Atif خريج برنامج “العالمية” في دار العلوم في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا. حائز على درجة الشرف في الدراسات الإسلامية في جامعة جنوب أفريقيا. Search Results for “orientalist” – Traversing Tradition