مقاربات في علم نفس الإبداع

ثقافة 2024/10/24
...

  ريسان الخزعلي

(1)
في منهجه المحدد: في علم نفس الإبداع، يضع الناقد د. حسين سرمك حسن كتابه عن الروائي فؤاد التكرلي. وقبل التداخل مع الكتاب، لا بد َّمن وقفة خاطفة تُحدد الدلالة في المنهج الذي تمسّك به الناقد في الكثير من إصدارته.
والوقفة هذه تُشير إلى المصطلح -علم، إذ إن العلم يقوم على: النظرية، المبرهنة، القانون، المعادلة، التجربة، وغيرها من المحددات. وبذلك يصح القول بأن (علم نفس الإبداع) في تحليل الأعمال الأدبية، ما هوَ إلّا تحليلات وتأويلات واستنتاجات وإحالات وإسقاطات، تستند إلى مظاهر السلوك النفسي – شعورياً ولا شعورياً – عند صاحب العمل الأدبي ومن خلال العمل ذاته. ومع ذلك، فإن (علم النفس) أصبح من فروع الدراسات الأكاديمية الأقرب إلى توصيف العلم.
إن كتابات د. سرمك قد أولت هذا العلم أهمية خاصّة بتطبيقات فنية/ جمالية عكسها على نتاج الإبداع العراقي. ورغم أن هكذا كتابات لم تكن جديدة، إلّا أنّها لم تكن
بهذه السعة في حياة الثقافة العراقية. لكنّه كسب المبادرة الإضافية، استمرارا ً وتأصيلاً، وقد أغنى المكتبة بعشرات الكتب مُكرّسا جهده للإبداع العراقي في انحياز حقّاني تعلله أهمية نوع الاختيار في هذا الانحياز.

(2)
إن الجذر الأوديبي والموقف الوجودي، توصّلات راسخة في فهم (النفسي)، وهي قادمة من الإسطورة والوعي الفلسفي، وقد اكتسبت ثباتا في تحليلات عدّة، وإن َّ التفات الناقد إليها وتطبيقها على روايات المبدع فؤاد التكرلي.. (الرجع البعيد، الوجه الآخر، خاتم الرمل)، قد أضفى لمسة إبداعية لكل ما هو فلسفي وإسطوري، إذ جعل منهما توازيات مع الحقيقة بدلالة النصوص والشخصيات، معللا ً بذلك السبب الإبداعي الخفي والنتيجة التي أوصلها. وهكذا برهن تحليلياً:
إن (الوجه الآخر).. هي الوجه
الآخر للاشعور الآثم، وأبطال (الرجع البعيد) هم ضحايا الوجود وضحايا اللاشعور، و (خاتم الرمل).. خاتم الأم. وكل هذه التحليلات قد جاءت من النصوص وبإدراك الناقد (النفسي) لحمولات هذه النصوص من: اللاشعور، الآثم، الوجود، الأم، وبانسجام مع سياق المنهج:
اللاشعور... دلالة نفسية، الأم والآثم.... دلالة أوديبيّة.
ولكي يُقيم روابط متماسكة لاستنتاجاته، فقد أفاض كثيرا بنقل وشرح حركات الشخوص وسلوكياتهم.
(3)
روايات التكرلي تبني تتابعها الفني الصوتي باعتماد الصوت الواحد أو الأصوات المتعددة، ومع ذلك تعامل الناقد مع هذه الصوتيّة بقدرة تطويع المنهج لما هو فني، وما
هو فني يستقطبه المنهج ذاته، وبذلك أوجد توازنا قلّما نتوافر عليه في دراسات من هذا النوع، إذ يُطبّق المنهج بالإشارة فقط أو التلميح الدلالي لمنجزات النظريات
النقدية.
لقد كشف أسرار العمل الفني في روايات التكرلي نفسياً وببراعة ربما تُدهش حتى المؤلف كما أرى. لأنَّ استدلالات منقولة من "دستويفسكي" و "الفونس كار" و"كافكا" وقبل ذلك من القرآن الكريم، قد عززت "قوّة الاستنتاج" في توصّلاته وبما يُثير الدهشة للروائي والمتلقّي على السواء؛ لأن َّ مثل هذه الاستدلالات تضع أطراف العملية الإبداعية (مولّد النص، المتلقّي، ناقد النص) في موقف انتباه لما هو (لاشعوري) لا يوجد مَن يجزم الاعتداد به مسبقاً، غير أن َّ (الاستبطان) قد ولّد َ القناعة بعد أن أوجد هيكلية خاصّة لتفكيك (اللاشعور) بتخطيط بياني لاحق للتفسير.
إن أقوالاً مثل: لكل إنسان ثلاث شخصيات، تلك التي يعرفها، وتلك التي هو عليها، وتلك التي يظن ُّ بأنها له، وما يخاف أن يفضي بها حتى لنفسه، قد توالفت مع تركيبات التخطيطات الملحقة بالكتاب. وأوجدت بؤرة شفّافة ينفذ منها ضوء الكشف: من التحليل إلى النص، ومن النص إلى التحليل. وهنا تكمن القيمة الإبداعية، ليس في النص فحسب، وإنما في قيمة إبداع التحليل أيضاً. كما أن النص القرآني الكريم (إذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجعٌ بعيد) والذي كشف عنه الروائي، بأنّه كان السبب في تسمية روايته ب (الرجع البعيد) يكشف ويُضيف الكثير لمنهج الناقد في التحليل النفسي بعد أن ثبّته في الفصل المخصص لهذه الرواية. وهكذا اقترن التحليل، ليس بالدلالة الأوديبية فقط، وإنما بالموقف الحياتي/ الوجودي وبدلالته الدينيّة.

(4)
إن اتّساع كتابات الناقد على ضوء تحديداته (في علم نفس الإبداع) ستكتسب أهمية إضافية فيما لو تواشجت أو تداخلت مع النظريات الجمالية والفنية الأخرى؛ لأنَ مثل هذه (التحديدات) ستجعل من طروحات فرويد مرجعاً تأسيسيّاً ضاغطا على مدركاته التحليلية؛ وستجعل مصادر دراساته كما هي في كلِّ مرّة، وقد يلحق بها الملل عند التلقّي. وأجد أن الإفلات من شدّة قبضتها سيمنحه ُ أفقاً أوسع في التحليل والفحص يُضاف إلى أفق التحليل النفسي.

(5)
ما جاء في كتاب (فؤاد التكرلي والجذر الأوديبي للموقف الوجودي) وما سبقه من كتب تحت عنوان "في علم نفس الإبداع" يضع الناقد في مصاف التوازي مع الكتّاب والنقّاد اللامعين الذين كشفوا عن أعماق النفس البشرية وتمظهراتها في الأعمال الإبداعية.
وهكذا كانت كتابات د. حسين
سرمك عن الإبداع العراقي ضمن منهجه النفسي - في هذا
الكتاب وغيره - قد جعلتنا نتحسس النفس البشرية وكأنها موجودات ماديّة.