هل يلتفت قرّاء العالم لثقافتنا الجديدة؟
صفاء ذياب
لم يكن القرنان الثامن عشر والتاسع عشر منطلقين لمعرفة العقلية الشرقية عموماً والعربية على وجه الخصوص، بل سبقت هذين القرنين اكتشافات كثيرة، غير أنَّ القرن الثامن عشر كان بوّابة كبيرة بعد اكتشاف آثار مصر وفيما بعد آثار العراق، وهو ما دفع الرحّالة الأجانب لزيارة بلدان الشرق الأوسط لمعرفة هذه الحضارات التي غيّرت من قراءة التاريخ وأعادت اكتشاف الأسلاف الأوائل الذين أسّسوا لأمجاد لا يمكن أن تُمحى.
ومثلما كانت الصدمة الأولى في دخول نابليون بونابرت لمصر منطلقاً لعصر التنوير العربي، الذي انطلق في مصر، قادماً من طرابلس في لبنان وحلب في سوريا، غير أنَّ الأحداث التي تلت تلك الصدمة غيّرت وجهة النظر الأوروبية تجاه منطقتنا. فكانت نتاجات إبراهام بارسونز وأوستن هنري لايارد وسفيند باليس وروبرت كيسي، وغيرهم الكثير، ممّن جاؤوا للعراق ومصر والشرق الأوسط عموماً لاكتشاف ما كان غائباً عنهم في هذه الحضارات التي اندثرت، ولم يعِ أبناؤها ما كان عليه أجدادهم في العصور الغابرة.
وربّما كانت هذه الاكتشافات مرحلة أولى في اكتشافات أهمّ في الثقافة العربية، وهي ألف ليلة وليلة والسير الشعبية العربية والحكايات الشعبية العربية التي أعاد اكتشافها المستشرقون وقدّموها لنا بأشكال مختلفة. وخير دليل على تأثّر العالم الغربي في هذه الكتابات نموذجان كانا يفتخران بإعادة هذه الاكتشافات وهما غوته الذي قدّم أكثر من كتاب عن الشرق، ومن أشهره (الديوان الشرقي للشاعر الغربي)، وبورخيس الذي لم ينفك يعيد اكتشاف ألف ليلة وليلة في كتاباته وتخييله نحو الشرق... وكان آخر المتأثرين بشكل لافت هو البرازيلي باولو كويلهو الذي قدّم تجربة قراءاته للسرد الشرقي الساحر في أعمال روائية عديدة، أهمها (الخيميائي).
المرحلة التي سبقت القرن العشرين كانت حافلة في لفت أنظار القراء والكتاب الغربيين لحضارتنا، غير أنَّ ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى كان مختلفاً، فقد أضحت هذه المنطقة بؤرةً للحروب والفقر والأمراض، فهجرها الرحّالة، ولم يعد يُلتفت لا إلى بيئتها عموماً، ولا ثقافتها على وجه الخصوص. ومن يعيش في أوروبا وأميركا، سيكتشف أنَّ الثقافة العربية مجهولة للقارئ الغربي بشكل عام، ولولا حصول نجيب محفوظ على نوبل، واسم محمود درويش الذي ارتبط بفلسطين، لم تترجم أعمالنا قط. وحتَّى في حال ترجمتها، فمن الصعب التفات القارئ لها.
والآن، بعد أن أصبحت منطقتنا بؤرة للوقائع السياسية الفادحة كالحروب والاضطرابات، هل يمكن أن تسهم هذه الأحداث في رغبة القرّاء العالميين بالتعرّف إلى الثقافة العربية؟
أمّة الخسارات
يقترح الشاعر والروائي إبراهيم البهرزي سؤالاً آخر في هذا الموضوع، وهو: هل ستكون الثقافة العربية قادرة على تمثّل وتحليل هذه الوقائع الدراماتيكية الواقعة فعلاً أو هي في طور التوقّع والوقوع التي سيتبعها بالضرورة سؤال أكثر أهمّية يتمثّل في آليات الخطاب الذي سنتوجّه به لمتلقّين من ثقافات أخرى يقف بين خطابنا ودرجة تلقّيهم مدى مغرق بكلِّ مسبّبات التشوش والريبة صنعه الاستحواذ المطلق على وسائل التكنولوجيا والاتصال، فضلاً عن انشغال ثقافتنا العربية في صنع خنادق بينية مادتها الأساس الجراح التاريخية وقوامها الفرار من المستقبل المخيف؟
ويضيف البهرزي: قياساً بأمّة آسيوية مثلنا، كالإمبراطورية اليابانية التي عانت تاريخاً مثخناً بالحروب والعدوانية حتّى الانكسار الكبير في الحرب العالمية الثانية، هل نستطيع تقديم ثقافة تقوم على المراجعة القاسية والاعتراف كتلك التي قدّمتها الثقافة اليابانية وانفتح عليها (القرّاء العالميون) لتكون ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين أيقونة ثقافية متميّزة على خارطة الثقافة العالمية؟
نحن أمّة الخسارات والهوان المتلاحق التي لم تزل تنتج الطغاة الذين يذلّونها، والتي تضع الثقافي في جعبة الحاكم، والتي تنشق ثقافتها ما بين شعبوية تافهة ونخبوية متعالية مصطنعة، هل تعتقد أنَّنا قادرون على تقديم خطاب متوازن وعميق يرضي فضول القارئ العالمي، ونحن لا نخرج من كهف طاغية حاكم إلَّا لنقع في كهوف طغاة محكومين؟
الأمر يحتاج إلى (فرمتة)، ولكن حتَّى (الفرمتة) تحتاج إلى نظام معرفي رصين، فهل نمتلكه الآن؟
نافذة على الإنسانية
ويرى الناقد الدكتور علي حسين يوسف أنَّ منطقتنا، بما تمرُّ به كلّه من حروب واضطرابات، قد تبدو للبعض بؤرةً للعنف والفوضى. إلَّا أنَّ هذه الأحداث، وعلى الرغم من فظاعتها، تسهم في تسليط الضوء على الثقافة العربية أمام القرّاء بطريقة غير مسبوقة. فالصراعات وبالكيفية التي يثيرها الإعلام، تدفع العديد من القرّاء للبحث عن خلفيات ثقافية وتاريخية لفهم ما يجري. لكنَّ هذا الاهتمام يأتي مصحوباً بمخاطر؛ فالصورة التي تُقدَّم غالباً ما تكون مجتزأة، مليئة بالتصوّرات النمطية عن العنف والتطرّف، ما قد يُحجب التعقيد الغني للثقافة العربية.
ومع ذلك، فإنَّ هذه الأزمات تفتح الباب أمام الكتّاب والمفكّرين العرب لإيصال صوتهم إلى جمهور عالمي أوسع، حيث يروون قصصاً ومشاهدات تمثّل تجاربهم وآمالهم وتصوّراتهم. ويمكن أن تكون الأعمال الأدبية والفنية التي تنبع من هذه الظروف نافذة على الإنسانية المشتركة، وتكشف عن تاريخ طويل من الفكر والفن والجمال. لذا، وعلى الرغم من أنَّ الأزمات قد تُشوّه في بعض الأحيان الصورة الشاملة للثقافة العربية، إلَّا أنَّها تمثّل أيضا فرصة لإعادة صياغة هذه التصوّرات، من خلال أصوات المبدعين الذين يحوّلون المعاناة إلى مادة للتأمّل والتواصل.
الصدمة الأولى
ويشير الناقد علي سعدون إلى أنَّ المتغيرات الحادّة في الشرق الأوسط وغليانها الشاخص على مدى عقود يدفع بالقارئ إلى معرفة تاريخ وثقافة بلدانه، ويعتقد سعدون جازماً أنَّ ذلك لا يأتي بدافع الفضول فقط، إنَّما يأتي من الأهمّية البالغة التي تستدعيها المعرفة في تفسير الأحداث ووضعها في نصابها الصحيح. إذ يجهل الكثير من سكّان العالم التحوّلات السياسية والاجتماعية التي طرأت على مجتمعاتنا الشرق أوسطية طوال العقود الماضية، ولم تتنبّه إلى ما يجري في بلداننا من كوارثَ وأزماتٍ إلّا عند اشتعال الحروب أو اشتداد وتيرة الإرهاب الذي حيّر العالم ويُعدُّ صدمة أولى في انتباهة ذلك العالم إلى ثقافتنا وعقائدنا ومتغيّراتنا السياسية المضطربة الراهنة.. لقد ظلَّ العالم يتذكّرنا من خلال مقولات سحر الشرق وقبابه وحكاياته الأسطورية وكأنَّه منقطع عن حركة التاريخ الذي لم ينقطع على الرغم من انتكاساتنا التاريخية الكبرى.
كما يعتقد سعدون أنَّ هذه الجزئية في التفاتة العالم إلى واقعنا الاجتماعي والسياسي (ثقافتنا وتاريخنا)، مناسبة على قدر كبير من الأهمية في العمل الجاد على ترصين ثقافتنا وإنتاجنا في الأدب والتاريخ وكتابة السيرة التي من شأنها أن تنقل بصدق ما تراكم من معارف وثقافات تستحق الانتباه والفحص والدراسة. علينا أن نستحضر دائماً أنَّنا جزء من تركيبة هذا العالم وعلينا أن نكون حاضرين فيه بقوّة وفاعلية كبيرين بعيداً عن مقولات من قبيل انقراضنا وموتنا ثقافياً ومعرفياً.
حتمية الاتصال الثقافي
ويبيّن الناقد الدكتور جاسم محمد جسام أنَّه مثلما يعرف الجميع بأنَّ منطقتنا العربية هي منطقة صراع وتجاذبات منذ زمن طويل جدَّاً، وهذا ما يجعل الأنظار تتجه نحوها، ويبدو أنَّ مسارات الصراع في هذه المنطقة بالغة الكثافة والتعقيد، وتتسع دوائرها لتغرق العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وهي امتدادات عالمية لها وضعها الخاص، ممَّا جعل الآخر يتطلّع للتعرّف على ثقافة منطقتنا على المستويات كافة وزيادة عدد القرّاء لمعرفة هذه الثقافات من خلال وسائل الاتصال الثقافي التي تساعد على نقل التراث بين الشعوب وتعمل على تسهيل التواصل بين الأفراد والجماعات ذات الثقافات المتعدّدة وتسهم بصورة كبيرة في إمكانية إيجاد فرص التحاور والتثاقف والتلاقي، وهذا بدوره يساعد الثقافة العربية أن تخرج من عزلتها.
ويضيف جسّام أنَّ حتمية الاتصال الثقافي بين الشعوب هي حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، وهي مرحلة فرضتها ظروف المنطقة وما تمرُّ بها من حروب واضطرابات وصراعات، جعلت الآخر يحاول الاطلاع على ثقافة المنطقة وما يدور حولها.
وعاء الحرب
ويبيّن الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي أنَّه لعقود عدة كنَّا فيها قرّاءَ ما كُتب عن الحربين العالميتين من أعمال روائية وقصصية وشعر ومسرح، فمناخ الحرب وعاء لأعمال كبرى، أبطالها أولئك الذين كانت لهم محطّات كارثية في محرقتهما، عاشوا لسنوات وهم بانتظار الموت على طريقة الحرب، فكانت الكتابة- هنا- قد دوّنت ما حدث بوصفها وثائق إبداعية عمّا حدث فعلاً، وكشفت لنا عن تفاصيل وأسرار غريبة ومؤلمة في الوقت نفسه، فبيئة الحرب مغرية للكتابة والقراءة معاً في أيِّ مكان من هذا العالم، ويمكن أن ينسحب ذلك على الثقافة العربية اليوم، بوصفها تعيش أمكنة ساخنة على طول خطّ سيرها، فالعراق لو قدّر أن تُرجمت بعض أعمال أدبائه المهمّة التي استلهمت الحروب بشكل إنساني وحيادي، بالتأكيد سنجد بالمقابل قرّاءً في العالم يهمّهم كثيراً، أو يغريهم فعل التعرّف على ما حدث في واقع يبدو بالنسبة لهم فيه الكثير من الأسرار بفعل الجغرافيا البعيدة، واليوم مع اشتداد الحرب بين إسرائيل ولبنان وفلسطين باتت الأنظار من بقاع الكون كلّها لعالمنا العربي، وما الذي سينتج من أعمال أدبية إبداعية تجعله يقف أمامها موثّقاً هذه الكوارث اليومية، بشرط ترجمتها وتوزيعها وجعلها بيد القارئ الغربي، بالتأكيد سيسهم الأمر بالالتفات لحقل الأدب العربي بشكل واسع، ومعرفة مناخاته وجماله وقدرته على الوقوف أمام المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وهي تعلن حرب الإبادة لشعبين عربيين، يزعم الزيدي أنَّ الكتابة بفعلها الإنساني هذا ستجد لها مشتركات في بقاع العالم كلّها وقرّاء فاعلين على قدر كبير من الأهمّية.
ديستوبيا متشكّلة
ويختم الناقد الدكتور أحمد حسين الضفيري حديثنا، قائلاً إنَّه لطالما كانت المنطقة الشرقية بصورة عامة، والعربية بصورة خاصة مناطق غامضة وتحمل صورة (ألف ليلة وليلة) في مخيّلة الغرب، لكنَّ تطوّر وسائل الإعلام بدأ ينقل صورة أخرى مغايرة عن العرب، إلَّا أنَّ الغرب ما يزال يحاول اختزال الصورة الكلية والراسخة في ذهن الغربي بشكل الشخص المتطرّف الديني، ولهذا يجد الضفيري أنَّ من واجب المؤسسات الثقافية– لا سيّما الحكومية- العمل على ترجمة الأعمال الأدبية والكتابات التاريخية والسياسية للغات أجنبية، على اعتبار أنَّ السينما العربية ما زالت قاصرة عن تقديم الصورة الواقعية للحياة العربية.
وأضاف أنَّ الصراعات التي تدور الآن في المنطقة العربية جعلت صورة المدن العربية– المدمّرة- تحتل واجهة الأخبار العالمية. وبهذا، فإنَّ المدن التي لا تهتم بنقل صورة يوتيوبية عن مدنها، فإنَّها ستبقى تحت نظرة الديستوبيا التي تشكّلت بعد المعارك التي طالت كثيراً من المدن العربية.