الأخرس يبتكر فيصل الثالث

ثقافة 2024/10/30
...

رعد كريم عزيز

أتاح لنا عنوان الكاتب محمد غازي الأخرس المتلاعب بالتاريخ وكوابيسه السعيدة كما يدعي، استعارة العنوان لمقالتنا التي تعنى بروايته الثانية (مخطوطة فيصل الثالث ملك الكوابيس السعيدة)، الصادرة عن دار نابو، الطبعة الأولى 2024، بعد روايته الأولى (ليلة المعاطف الرئاسية)، لنذهب في تفاصيل كوابيسه المركبة التي تبدأ من حافة القرن العشرين الماضي، وتنتهي في بدايات الكون والعماء الأول، وتشكل الأساطير التي تحاول تفسير الكون بأديانه وجغرافيته وتحولاته الفيزيائية وألغازه المعقدة.

 تعتمد الرواية على الراوي العليم والمكشوف الذي يقترب من خطى وأداء القصخون القديم، الذي يتوقف عندما يرغب، ويسترسل عندما يحلو له، ويرفع من التشويق وقتما تحين ساعته، لذا نجد أن الروائي محمد غازي الأخرس يقلب القارئ على نار جمر حكايته، غير بعيد عن كل أدواته الصانعة في كتابة المقال أو الرصد الأدبي للظواهر التاريخية والفلكلورية، والكم الهائل من الرصيد الثقافي في الرواية والتاريخ والجغرافية، بما يخدم الفعل الروائي السردي لشخصية محورية اسمها الأول (هوشله)، وبشكلها الغريب المختلط بين الإنسان والحصان، متسلحا بقدرات ذاتية تعجيزية في معرفة اللغات والتاريخ وإمكانية الطيران والنمو السريع، قافزا فوق قوانين الفيزياء الطبيعية في النمو الجسماني وإبداء القدرات الذهنية التي جعلته محط اهتمام استثنائي من قادة الجيش الإنكليزي المتوجه من البصرة إلى بغداد عبر الكوت، التي شهدت الحصار من قبل الأتراك الذين أذاقوهم مر الخسارات الموجعة. وفي كل تلك الفترة التحولية المصيرية للعراق وانتقاله من الفترة العثمانية إلى البريطانية، وتشكل الحكم الملكي، حتى النقطة الفاصلة ليلة 14 تموز 1958 حينما دخل الجيش والأهالي إلى قصر الرحاب لذبح الملكية وسحل ما تحقق عبر كل تلك السنوات، بدواعي التغيير نحو الجمهورية، والكاتب هنا يتوقف عند هذه الليلة ولا يعبرها، كي لا يبدي رأيا يفسد حكايته الأسطورية التي يرويها بأكثر من منظور سينمائي استرجاعي على لسان أكثر من شخصية، وكأنه ينقل التاريخ باستعراضية الحياد الممكن في كشف خبايا التاريخ.  وهو هنا يسرد عبر الراوي العليم كل الحكايا الأسطورية المحيطة بشخصيته الرئيسة (هوشله) باعتبارها ولدت من مهرة، ولديها القدرات اللغوية ورؤيا المستقبل، وتتحدث مع الخيول وتعرف عوالمها, إلا أن هذا لا يكفي الكاتب لكي يسرد حكايته، فهو مفتون بما هو أبعد من ذلك في تشكيل هيكيلية روايته، واتبع في ذلك أولا الشكل المعتاد في ترقيم الفصول من 1 إلى 27، وتخلل هذه الفصول التي تتحدث عن بدايات تشكل الدولة العراقية بدخول الإنكليز إلى البلاد، وهو ماض قريب ولكنه مليء بالألغاز، وتعدد الروايات عن الشخصية الإنكليزية المثيرة للجدل (غيرترود) والقائد (تاوزند) والسير برسي، والعديد من الشخصيات التي حفر الأخرس عميقا لتوثيقها مع الأحداث التي مرت بالبصرة وحصار الكوت وتشكل المجتمع العشائري في تلك الفترة. وتتداخل بين الفصول مقاطع لم يضع لها الأخرس أرقاما، بل أعطاها أسماء بعنوان رئيس تحت مسمى (صندوق الأشباح)، يبدأ أول صندوق بعد الفصل 10 بعنوان (صندوق الأشباح 14 تموز 1958) ص78، وهو انتقالة زمنية لما بعد مقتل الملك ومجيء الجمهورية في العراق، وسيكون هنا البطل الجديد للرواية هو الصندوق الذي يُسرق من القصر الملكي، وفيه المذكرات والهوامش إضافة إلى قطع ذهبية. وبعد الفصل 11 يتداخل مقطع (صندوق الأشباح انسداحة أولى) ص 91، ويعكس الصراع من أجل الاستحواذ على الصندوق ومحتوياته. وبعد الفصل 14 يتداخل الزمن إلى الأمام (صندوق الأشباح الملا صبر ) ص114، ويعطينا فرشة تاريخية لتكون الملا صبر وولعه بالقراءة والكتابة، للتمهيد لكتابة تاريخ غامض ومستنسخ برؤية خاصة للهوية العراقية الملتبسة, لأن كل هوية مختلطة في أتون احتلال أجنبي مع تصاعد خط محلي، تتعرض إلى تشويش في التأسيس، لا سيما إذا تعرضت إلى العنف لإثبات امتداد تاريخها المحلي. ويتداخل بعد الفصل 18 (صندوق الأشباح المناحة) ص 142، ويعلن الكاتب عن سرقة الصندوق وحزن الملا، فكلما استقامت عمليات التثبيت للهوية تعثر المسعى بالاحتراب الداخلي وسوء الفهم واندماج العملية برمتها بالمال والشره للاستحواذ عليه. وتستمر عملية البحث عن الصندوق بعد الفصل 20 (صندوق الأشباح، هل ينفع الحلفان ) ص 163. نصرت وعاتكة من التركمان، في إشارة إلى استمرار عملية التدوين برؤية مغايرة، لأن الكل مشتركون في عملية البحث والتدوين لإثبات الهوية، العرب والكورد والتركمان وغيرهم. وبعد الفصل 23 ( صندوق الأشباح وولي برانت) ص 193، تتصاعد حمى الملاحقين والمسحورين بمحتويات الصندوق الكتابية المتداولة بين شتى المشارب؛ من سكان محليين وأجانب، حتى إن الروائي ومن كثرة الاشتباك في عديد الشخصيات يقول في هذا التداخل: (فروى له كل شيء عائدا بالزمن إلى ما بعد سرقة الصندوق بيومين، حين ذهب به إلى بيت اخته حتومة لتخبئته عندها، وهو ما سنعرفه في الحلقة القادمة) ص 196، وتعبير الحلقة القادمة مصطلح تلفزيوني بعيد عن مصطلحات الرواية، إذ إن الأخرس يكتب ما يحلو له من دون أسوار، مثل قصخون يريد التأثير في سامعيه بكل ما يملك من أدوات التشويق، من دون اعتبار مسبق لشكل كتابي ثابت. وبعد الفصل 25 (صندوق الأشباح فلاش باك) ص213، تسير كاميرا الأخرس إلى أوليات البحث عن الصندوق، وتظهر كل أطياف الشعب العراقي مشتركة في عملية البحث وثبيت الوجود العرقي التاريخي، فإن تعددت الأصوات وتشابكت الأحداث، فما هو إلا تداخل فرضه الواقع العراقي ووضوح تشكلاته بعد دخوله عصبة الأمم، حيث حجز له مقعدا في الصورة التاريخية للعالم . وبعد الفصل 27 (نهاية صندوق الأشباح ) ص 235، حيث وصل الصندوق إلى لندن وتم استرجاعه، وهو يحوي 11 نسخة مع نسخة 12 غائبة عن الوجود، في كناية عن الـ 12 شخصية عبر التاريخ وتأثير الرقم في تفسير الوجود لحياة البشر، وهي المهمة التي يضطلع بها الباحث محمد غازي الأخرس قبل أن يكون روائيا: (تواصلت النقاشات العبثية بعد ذلك من دون أن يعرف الحاضرون شيئا، ثم انقطعت الجلسة وتفرق أبطال الحكايات بانتظار النسخة الأخيرة ) ص 241، وبذلك يسلم الروائي حكايته لشيء منتظر قد يكون في الواقع أو في عالم الغيب، وهو أمر له جذور وأسئلة ونهايات مفتوحة، وهو بذلك يترك عنونة التداخلات تحت مسمى (صندوق الأشباح) إلى تداخلين، الأول بعنوان (حكاية سائس)، ليكشف لنا عن بطلين للرواية هما شخصية “هوشله” بكل ما تحمل من أسطورة وانبعاث تاريخي فلكلوري وواقعي وعجائبي، وعن “صندوق الأشباح” ليتناوبا على بطولة الرواية حتى الوصول إلى عام 1958، وهو النقطة المفصلية التي نقلت الرواية من التسلسل التاريخي الأسطوري والشعبي المدني، إلى النقلة العسكرية التي اشترك فيها العامة بكل اندفاع وعنفوان، وظهرت الشخصيات سابحة في فضاء الفنطازيا والأسطورة والخيال لتشكيل أركان رواية يراد لها أن تكون تاريخا يشكل الهوية العراقية الملتبسة بكل خلطاتها المتنوعة، حتى يصل الروائي إلى التداخل الذي يختلف عن كل الأشكال الكتابية في العنونة ص 249، فلا هو فصل مرقم ولا تداخل معنون (صندوق الأشباح)، بل هو بعنوان منفصل (رؤيا فيصل الثالث الأخيرة) ويأتي على لسان البطل الرئيسي هوشلة الذي ينظر إليه الملك برؤية التنافس وعدم فتح المجال له خوفا من تربعه على الكرسي الذي طمح له الجميع، ولا يخشى الروائي من دخول كل أشكال الروي، حيث وضع نهاية الرواية على لسان هوشلة وهو يروي مقتله بوثيقة موقعة بتاريخ يوم الأحد 13 تموز 1958 قصر الرحاب، في إشارة تاريخية إلى نهاية حقبة، وتشابك خيالي بين الملك وهوشلة الذي يكتب: ( كنت أنظر إلى رأسي المقطوع إليهم، وإلى العربة والحوذي، وحورية التي كانت تبكي وتخرط خديها وهي تقف عند جسدي المنطرح قريبا) ص 254 . يخرج القارئ من رواية محمد غازي الأخرس (مخطوطة فيصل الثالث ملك الكوابيس السعيدة)، من الوثيقة والتاريخ السومري والأكدي والآشوري ووقائع العراق الحديث بعد عام مجيء الملك فيصل الأول، إلى المتخيل، حيث يكتب في ص 247: (فاجأ فيصل الثاني العالم بعد تتويجه على عرش العراق عام 1952 بإعلان عجيل وليا للعهد باسم فيصل الثالث، على أن يكون الولي من بعده الابن الأكبر لفيصل الثاني أو الابن الثاني إذا غاب الأول)، وهو ما يعكس قصدية الرواية التاريخية، لأن حكايتها تنحاز إلى تفسير مرحلة مرت بها البلاد عبر الوثائق، وقصدية أخرى تحمل التأويل المتخيل بعد قطع رأس هوشلة، الذي ظهر في الرواية تارة بشخصية أنو الإله الأسطوري للخلق الأول، ثم هوشلة وتبديل اسمه إلى عجيل ثم فيصل الثالث، وكل هذه التأويلات والمسميات وقفت عند ليلة الرابع عشر من تموز 1958 .
استعان الروائي بتأثيث روايته بكافة المسميات التاريخية، عبر نبش وحفر في الجغرافيا العراقية والعالمية، لأن كل مكان يحضر بشوارعه، إن كان في المشخاب جنوب العراق، أو في لندن، مما ساهم في تشكيل رواية تقترب من عوالم ألف ليلة وليلة، لأن علينا أن نصدق بوجود شخصيات أسطورية تمتلك قدرات خارقة وهي تتحدث حتى بعد مماتها، لذا منح الروائي نفسه حرية الظهور والاختفاء بين السطور رائحا وغاديا من دون حواجز، وهو اتجاه جديد في الرواية العراقية الحديثة، حيث توافر لها الجذب والإقناع بالوصف والسرد الحكواتي للأحداث، وفق سيناريو التقطيع والتشويق لشخصيات تاريخية عُرضت في مشاهد متخيلة، ولكن في أرضية بغدادية عراقية استعانت بشواهد التاريخ القريب الماثل في ذهن القارئ المتابع للفترات التاريخية الحاسمة في تشكل الدولة العراقية.  ولقد نجح الروائي والباحث محمد غازي الأخرس في تدوين حكاية البحث عن الهوية العراقية سرديا بامتياز كتابي، سيتناوله الكتاب بأكثر من زاوية نقدية لروايته (مخطوطة فيصل الثالث ملك الكوابيس السعيدة).