حازم رعد
عند كل حديث عن مفهوم اللوغوس، يسبق إلى الذهن معنى “المركزية” وفرض نوع من الهيمنة التدبيرية في الأشياء، وما دمنا الآن نحاول أن نفكر في مفهوم، فإننا حقيقةً نفكر في التاريخ، على اعتبار أن المفاهيم حكاية عن وقائع وأحداث حاصلة في الزمن، وهنا يمكن لنا أن نحدد ثلاث لحظات مهمة من تاريخ البشرية ظهر فيها مفهوم اللوغوس، معبراً عن نفسه تارة في قانون عام يدبر شؤون العالم، ومرة حاكياً عن انتقال تفسيرات الفكر البشري من مرحلة المثيوس إلى اللوغوس، وأخرى كما أسلفنا يعني لونا من المركزية في إدارة الأشياء والأحداث والحياة،
وكل التعبيرات استغلها صانع التفكير الأوروبي لتعميم عقدة التفوق ومركزية الأوروبي التي تقول بتفوق العقل اليوناني “الامتداد الطبيعي لأوروبا” مرة، وأخرى للإعلاء من شأن العرق الآري والأوروبي على سائر الأعراق الأخرى، وهذا التوظيف للوغوس فتح باب الغطرسة “غطرسة الجدارة”، لو استعرنا فكرة مايكل ساندل للإقلال من شأن الآخر واحتقاره والاستخفاف بحقوقه، ثم، نتيجة لذلك، إقصائه، “فهو دائماً على خطأ ودائماً لا قيمة حقيقية لذاته”، فليست له تلك الأهمية التي ترفعه إلى درجة قبوله، فيمكن حتى إلغاؤه وإبعاده عن مسرح العيش بكرامة أو الحياة أساساً .
كما فتح ذلك باب الغزو “واستعمار البلدان والشعوب الأخرى”، ومحاولة إرساء نمط من الحياة والعيش يتناسب مع الطريقة الأوروبية “ذات الأصول والدماء النقية”، وما انفكت هذه الأزمة النفسية حتى قطعت الرقاب وسقطت الأجساد في الحروب والغزوات، واضطهاد الشعوب وسلب خيراتها ومحو هويتها وإبدالها بأخرى، ولعل الشاهد من التاريخ القديم هو ما أقدم عليه الإسكندر الأكبر المقدوني الذي لم يدخر جهداً في غزو بلاد الشرق والهند وغيرها لربط العالمين الأوروبي والشرقي، وصناعة إمبراطورية عالمية “اتحاد عالمي”، ومن المؤكد أن مثل هذا الاتحاد لم يكن مقبولا حتى عند أقرب الناس إليه معلمه الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، الذي كان يجد أن الدولة تقتصر على حدود “المدينة” كما هي في المدن اليونانية القديمة، والشاهد الآخر أيضاً هو حروب استعمار الشعوب المسالمة والضعيفة في بلاد الشرق التي تقاسمتها أوروبا بينها، لنهب خيراتها والاستفادة من مواردها الطبيعية ومن أسواقها كذلك، وللتبشير بدين النصرانية أيضاً.
ومرة عبر “اللوغوس” عن نفسه في نظام المركزية الذي يشتد سعي الغرب المعاصر “حضارة العالم الجديد” لإرسائه كنظام عالمي، تفرض من خلاله “أمريكا ومن تبعها من الغرب وأوربا” هيمنتها على العالم باقتصادياته وسياساته وثقافاته، ونحن نرى ما اصطنعته هذا الحضارة “أمريكا” من حروب، وهذا خير شاهد على شهوتها الجامحة بالسيطرة والاستبداد وغزو البلدان، مستضعفة اليمن والعراق وأفغانستان، بل وما يفعله الكيان الصهيوني من اغتصاب لأرض لا يرتبط بها بأي رابط عقلائي، وجرائمه في فلسطين والجولان السوري ولبنان خير دليل على غطرسته .
هذا اللوغوس بدأ بعد لحظاته تلك التي لمع فيها نجمه، عبر التزيين والتزويق المستمر بقيم حقوق الإنسان والحرية والمساواة والاعتراف بالآخر والسلام العالمي، بدأ بالتداعي والانهيار تدريجياً بسبب السياسات التي تنتهجها الحكومات الغربية، فإن الظلم والاضطهاد يرتدان على صانعهما ويحركان نفس الشعور بضرورة المقاومة وعدم الرضوخ أمام الأطماع وسحق الهوية وانتهاك السيادة، وأمام عمليات التدجين الثقافي ومحاولات إدماج تلك الثقافة الوافدة بثقافتنا .
إن انهيار اللوغوس يبدأ من الناحية النظرية، لأنه لم يعد بالإمكان مزاولة هذا اللون من الهذيان الفكري الذي يتنطع بالمركزية والمواطن العالمي “السوبرمان” وحقوق الإنسان الدولية، وحتى النوادي الدولية انفرط عقد الثقة بينها وبين العالم، ولم تعد سوى مجموعة من البروتوكولات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل ربما يكون وجودها من قبيل إضفاء شرعية على الاعتداءات التي تمارس على الدول الضعيفة وانتهاكها، كما أخذ العالم ينفرط تلقائياً من حالة “القطب الواحد” الذي ينشد حكم العالم بشكل مطلق وتنميطه حضارياً برؤية ونماذج غربية، فهناك من ذهب باتجاه عالم متعدد الأقطاب يقوم على احترام الخصوصيات الثقافية والدينية والهوية العامة للدول والشعوب، متيقنين من أن الهوية الواحدة إرادة للهيمنة، والثقافة الواحدة محو للثقافات الأخرى، وذلك تعبير عن السقوط المدوي لكل المفاهيم التي رفعت طيلة عقود من الزمن، والتي تتبجح بالحرية والفردانية واحترام الخصوصية والحريات العامة والاعتراف بالآخر وعدم الإلغاء .
سقط لوغوس الغرب عندما شوهدت جثث الأطفال والناس متفحمة جراء الاعتداءات الإسرائيلية على الشعوب المستضعفة مثل فلسطين ولبنان وغيرهما، ولم ينبس الغرب إزاء تلك الأفعال المشينة ببنت شفة، أو يستنكر أو يقف وقوفا حقيقيا وفعليا تجاه سياسة الغطرسة تلك، بل راح رعاة ذلك اللوغوس متمادين في دعمهم لسياسة القتل والانتهاك واغتصاب الأرض وخرق القوانين، بل الأبعد من ذلك هو الدعم المالي والدعم بالأسلحة التي يقتل بها الأبرياء ويفتك بالمجتمعات. لم يبق للوغوس الغربي إلا المماطلة ومحاولة إيجاد تبريرات تحفظ له ماء وجهه الذي يراق باستمرار مع كل دمعة يذرفها طفل وحسرة تتنهدها أم على ولدها وزوجها وأخيها.
إن حلم الدولة العالمية على الطراز الغربي، محمية بجيش عالمي تصادق عليه منظمات دولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن القائم على وحدة “اللوغوس (قانوناً ونظاماً وإدارة )، ذهب أدراج الرياح بسبب أن الشعوب بدأت تعي خصوصيتها، وتقاوم من أجل هويتها وتناضل من أجل الحفاظ على ثقافتها ومواردها وتصارع حد لفظ الأنفاس دون أن تمس بسوء . إن نظام الغرب ارتد على نفسه يوم أمعن في ظلم الشعوب واضطهادها، والأنظمة يمكن لها أن تدوم مع الكفر ولكنها لا تدوم مع الظلم، ولابد من أن تأتي تلك اللحظة وتتداعى كما تتداعى قطع الدومينو تباعاً.