مفهوم الوطن.. دلالات وتأويلات

منصة 2024/11/03
...

  حازم رعد

إن مفهوم الوطن بحاجة للكثير من التشريح والتصويب، فهو من صنف المفاهيم المرنة المنفتح على الكثير من التأويلات والتعديلات، وبالتالي هو مفهوم ينظر فيه إلى مصالح معينة في ظروف ورهانات محددة "لذا يقرأ من زوايا متعددة.. والسؤال المهم هل المقصود ها هنا بمفهوم الوطن من منظور ديني قد تتسع احماله الدلالية، فأن وجود دولة دينية تستدعي وجود وطن ديني وقد يكون العكس أن نركز البحث في خصوص المفهوم.
وهنا يمكن تثبيت وجود وطن ديني "حدود البلاد الإسلامية مثلاً أو البلدان المسيحية قبل القرن الخامس عشر في أوروبا" أم ينحسر مفهوم الوطن على دلالات الفهم الوستڤالي "التي اقيمت عليها هياكل الدولة الحديثة" والتي هي بالدقة نتاج للتفكير الغربي
بامتياز.
ويمكننا حمل المفهوم بهذا المعنى بأكثر من مؤيد على محاولات ارسائه لغاية التنميط الحضاري والإجهاز على الهويات الأخرى والتوزيع غير المتكافئ للفوضى بما يعود على الدول الكبرى المهيمنة بالنفوذ والاستحواذ وتسويق الانتاج وتوسعة
الاستهلاك.
إن مفهوم الوطن كما لاحظنا فضفاض للغاية، فهل يعني الوطن حدود البلاد الإسلامية أم يعني حدود الوطن العربي، في الحين الذي توجد في جغرافيا العرب قوميات أخرى غيرهم "الكرد والامازيغ والافارقة" وهل العرب فعل لغة أم فعل عرق؟ وهكذا تتداخل المفاهيم والدلالات، أم المقصود بالوطن يقع في حدود الدلالات التي رسمتها "سايكس بيكو، وكامب ديفيد" وما رافق ذلك من تقسيم البلاد الإسلامية والعربية من قبل الاستعمار إلى بلدان ودول وإمارات وممالك لها حدودها على الخريطة والأرض. وهناك دلالات أخرى "غنوصية" لمفهوم الوطن عند الشيعة فهم بإحدى القراءات يرون الوطن هم ائمة أهل البيت، وعند المتصوفة دلالات مختلفة
للمفهوم.
وأنا أثبت أن اكتشاف معاني ودلالات هذا الحديث "عن الوطن" عسيرة ويشوبها الغموض، وكلها آخذه بالتعقيد، نظراً لأن الذوات مختلفي الاعتقادات والتوجهات، ولا يتفقون عند معيار علمي أو منطقي واحد يكون فيصلاً ومقيساً في تحديد دلالة المفهوم.
فهناك من ينظر للأمر عقائدياً مهما كلف ذلك من خسارات مادية وبشرية، وهناك من يقصر نظرته على حدود ما يغطيه العلم الرسمي للدولة، ومثل هذا أحيانا لا يبالي بنتائج المشاريع الموجهة ضد المعتقدات، فهو هامشي في الفهم ولو كان للوطنية أثر في اعماق النفس وتأثير طبيعي في الانسان لما عمل المنظرين والمفكرين على تعزيز هذا الشعور من خلال توسل الذكريات التي تثير الحماسة ولما استعاروا بالتاريخ والمناسبات الوطنية والرموز السياسية لتنمية ذلك الشعور بالانتماء والذي أقصى ما ينتجه أصنام جديدة بدلاً عن الأصنام التي
سبقت.
لقد استطاع بعض المفكرين تجاوز الفهم القديم لمفهوم الوطن، فرأوا فيه ذلك المعنى المستفاد من "الدولة الدستورية أو القانونية كما يسميها هابرماس" وهنا ننفتح على مشكلات جديدة "الوافدين اللاجئين المهاجرين" فقد يمنحون الجنسية. وبذلك تبدأ حلقة جديدة من مسلسل المشكلات المتعلقة بالتنوع والحريات العامة والتغيير الديموغرافي وأيضا التوجه الديني العام "العودة للديني" وهذا بحد ذاته مشكلة جديدة بدأ الغرب بالتعرض لها بحثاً ونقداً، فهذا المهاجر يأتي بترسانة من الحمولات القومية والدينية والثقافية ويضعها في بلد آخر لا ينتمي اليه إلا في حدود البطاقة الشخصية "القانونية" وهذا يحتاج اجراء تحليل سوسيوفلسفي لهذه الاشكالية.
هذا المفهوم شديد التعقيد ليس من حيث الاشتغال النظري، فحسب وإنما في ميدان النشاط والفاعلية وهنا أعطي مثالا لتقريب الفكرة فقط لا لإثبات تحقيقها فعلياً في الواقع، فحينما تتعارض مصلحتان "الأولى مذهبية والثانية وطنية كما تشاء أن يسميها جنابك الكريم" فمن أقدم على الأخرى وأنا مثلاً متدين واعتز بمذهبي وأرى، واعتقد أن التزامه والدفاع عنه يوصلني إلى الجنة "فهو ما يحدد مصيري الديني الاخروي" تخيل ماذا سأختار حتى لو كلف ذلك خسائر ناهضة!
سيما وأن هذا الاعتقاد مدعوم بنصوص دينية تحفز عند الفاعلين ذلك الواعز على المواجهة والمقارعة، فتخيل ماذا سأختار أنا وأنت وأي شخص متدين.. هل سأختار المذهب الذي هو اعتقاد ديني يرتبط به مصيري الأخروي، أم سأختار التزام ما تقره القيم الوطنية التي هي نتاج غربي مستحدث لم يكن لها وجود قبل مئتي عاما، وأقصى ما يسدني إليها التزام وظيفي أو معيشي أو قيمي فرضته الظروف والأوضاع الاجتماعية.
بصراحة أن هذا الموضوع شائك جداً وهو بحاجة إلى مزيد من الدراسات والبحث والنقد حتى تتشكل رؤية واضحة أو قريبة من الوضوح لتنجلي عن الأذهان سحابة جهل
بالمفهوم.