الخيال والتخيل.. من الواقع إلى عالمٍ آخر

ثقافة 2024/11/06
...

صفاء ذياب





افتتح أرسطو طاليس التنظير لمفهومي الخيال والتخيّل، ليمهّد الطريق أمام الباحثين والنقاد في طرح الآراء حول هذين المفهومين في مختلف حقول المعرفة، فيقول في (كتاب النفس) “أمَّا التخيّل فهو شيء متميّز. عن الإحساس والتفكير، ولو أنَّه لا يمكن أن يوجد بدون الإحساس وأنَّه بدون التخيّل لا يحصل الاعتقاد. أمَّا أنَّ التخيّل ليس تفكيراً، ولا اعتقاداً، فهذا واضح، ذلك أنَّ التفكير متوقّف علينا كما نريد (لأنَّنا نستطيع أن نتخيّل شيئاً أمامنا كما يفعل أولئك الذين يرتبون الأفكار في مواضع معيّنة للذاكرة ويكوّنون منها صوراً) على حين أنَّ الظن لا يتوقّف علينا، لأنَّ الظن الذي يحدث عندنا، إمَّا أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً؛ وأيضاً فإنَّنا حين يحصل عندنا ظن بأنَّ شيئاً مرعباً أو مخيفاً، ننفعل في الحال، وكذلك إذا كان الشيء مطمئناً”.


يقول ابن منظور (ت 711هـ) في لسان العرب، إنَّ مصدر (خيل) من “خال الشيء يخالُ خيلاً وخِيْلة وخالاً وخِيَلاً وخَيَلانَاً ومَخالة ومَخيِيلة وخَيْلُولة: ظَنَّه، وفي المثل: مَنْ يسمع يَخَل أي يَظن”. فإذا كان الخيال عند ابن منظور بمعنى الظن، وهو يقترب من معناه لدى الفلاسفة العرب كما سنرى، فإنَّ العلاّمة الجرجاني (ت 816 هـ) يرى أنَّه “قوّة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها، فهو خزانة للحس المشترك ومحله مؤخّر البطن الأول من الدماغ”. يربط الجرجاني في كتابه (التعريفات) بين الخيال وبين التذكّر، ففقدان الأشياء المحسوسة، أو التي مرّت علينا وتعاملنا معها بوساطة الحواس، مشاهدةً أو لمساً أو سمعاً، يمكن للعقل تذكّرها بوصفها خيالات بعد غيابها، في حين يشير المصطفى مويڤن في كتابه (بنية المتخيّل في نص ألف ليلة وليلة) إلى أنَّ الخيال لغةً “يعني الصورة التي يرى النائم في الحلم، أو المتخيّلة في اليقظة. ويُحدّد الخيال بكونه مجمل العمليات الذهنية التي تتولّد عنها الصور؛ وقد تنشأ عن عملية استحضار الإحساسات في حال غياب الأشياء، التي كانت سبباً في عملية الاستحضار”. ومثلما ربط الجرجاني الخيال بالتذكّر، فإنَّ مويڤن لا يبتعد كثيراً عن هذا الرأي، لكنَّه يضيف إليه الحلم، والصور الذهنية التي تتولّد عن المحسوسات نفسها، وليس بإعادة الصورة بشكلها الكامل.

في حين يربط الدكتور شاكر عبد الحميد بين الخيال والأساطير القديمة، إذ يرسم مخطّطاً، طرفاه الأسطورة والحكاية الخرافية، وما بينهما يضع الأدب الخيالي والفانتازيا وقصص الرومانس (البطولية)، وبهذا يشير عبد الحميد في كتابه (الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي) إلى العلاقة بين العقل البدائي والعقل الجمعي، فالعقل البدائي هو الذي أنتج الأسطورة، أمَّا العقل الجمعي فهو الذي أنتج الحكاية الخرافية.

ومن هذا التوزيع الذي قدّمه الدكتور شاكر عبد الحميد، يمكننا النظر إلى أنَّ هناك خيالاً بدائياً، وخيالاً متطوّراً، يمكن تحديده في بحثنا هذا بالخيال الجمعي، وإذا كان الخيال البدائي منبعه العقل غير المتعلّم الذي كان يبحث عن تفسيرات للطبيعة والحقائق الكبرى التي لم يجد تفسيراً لها، فإنَّ الخيال الجمعي يسعى لطرح بدائل عمَّا هو موجود في الواقع.

من جانبه، يتحدّث موريس بورا في كتابه (الخيال البدائي) عن الخيال البدائي قائلاً إنَّ مجاله “ما فوق طبيعي، الذي يتوجّه إليه البدائي بكلِّ ما لديه من اهتمام وتبصّر. وهذا يعني أنَّ ما يقوم به الخيال البدائي من نشاط إنّما هو محدّد ومقيّد، ولكنَّه رغم ذلك كلّه بالغ الفعالية والحيويّة، فضلاً عن غائيّته الخاصة المرتبطة بما ينفع البدائي ويفيده في حياته. إنَّ المعتقدات البدائية على درجة بالغة من الغرابة إلى الحدِّ الذي يستلزم خيالاً قويّاً يجعلها مفهومة وملموسة، وإلاَّ فإنَّه من الممكن أن تتبدّد أغلب الأساطير في هلامية غير محدّدة ما لم تقدَّم بأسلوبٍ صارمٍ يلحُّ على كلِّ ما هو مهم فيها، ويمكنه أن يصلَ بوضوحٍ فعّال إلى عقل المتلقّي. والذي دفع المبدع البدائي إلى ممارسة العملية التخييلية على هذا النحو إنَّما هو- في الغالب- محاولته فهم ما تعنيه المعتقدات ويحاول تفسيرها من خلال نظرته الخاصة إلى العالم. والنتيجة الطبيعية لهذه النظرة أنَّ كلَّ الموجودات اللامرئية أو اللامحسوسة التي يؤمن بوجودها تصبح موجودات واقعية تلج دائرة فنه الواقعي تدخل في إطار عالمه المألوف”. هذه النظرة البدائية للعالم نابعة من كون المتخيِّل البدائي ليس لديه أيّة تفسيرات لما يدور حوله، فضلاً عن نقاء تفكيره الذي لم تدخل فيه العلوم الوضعية التي تسعى لتقديم تفسير لمختلف الظواهر الطبيعية.

ويضيف بورا أنَّ “الخيال البدائي يتعامل أساساً مع ما فوق الطبيعي وغير المحسوس، فضلاً عن أنَّه غالباً ما يندفع إلى الحركة والفعل بطريقة لا واعية ليحقّق الأهداف التي تفرضها عليه موضوعاته الخاصة. وهو يقدّم إلى عقل المتلقي شيئاً مرئياً، وذلك من خلال خلعه صفات المنظور والمألوف على غير المألوف أو المنظور”. فالصفات التي يخلعها العقل البدائي على الآلهة أو الجان مثلاً، صفات يستقيها من الملموس الذي يعرفه جيّداً، لهذا نجد أنَّ الآلهة في الأساطير السومرية والإغريقية؛ على سبيل المثال، تتحدّث وتتزوّج وتطلب الأكل والشراب، لأنَّ العقل الذي أنتج هذه الأساطير تخيّل أنَّها لا تختلف كثيراً عن البشر، وهو ما سنراه في السير الشعبية حين تقدّم الجان والأشباح، فإنَّها تتخذ من الجسم البشري نموذجاً لها، مع المبالغة في أعضاء هذه المخلوقات.

نظرة بورا للخيال البدائي لم تخرج كثيراً عن نظرة أرسطو، وهو أوّل من تحدّث عن الخيال وحاول تفسيره فلسفياً، فـ”مذهب أرسطو أن الخيال حركة يسبّبها الإحساس، بحيث لا يتأتّى للخيال أن يوجد بدونه، وهما أي الإحساس والخيال مختلفان، ومتى لم يوجد الخيال والإحساس لم يتأتَ وجود التصوّر conception وليس الخيال والتصوّر متطابقين”، كما ينقل جيمس تيودور في كتابه (قاموس أرسطو). يقرأ الدكتور عاطف جوده نصر تفسيرات أرسطو للخيال، ويحاول من خلال قراءته أن يطرح فهماً خاصاً لهذه التفسيرات التي جاءت من وجهة نظر فلسفية، مؤكّداً أنَّ أرسطو كان مؤسّساً لهذا المفهوم حتَّى وإن طرحه قبله أفلاطون. فضلاً عمّا طرحه أرسطو عن الخيال، فإنَّه انتقل بعد ذلك إلى التخيّل، ومن خلال قراءة نصر لهذه الانتقالة، يشير إلى أنَّ أرسطو اهتمّ “بتعريف التخيّل بإحالته على الإحساس، ويُنبئ قوله إنَّ التخيّل حركة ناشئة عن الإحساس بأمرين، الأول أنَّ الإحساس والإدراك أصل التخيّل، والثاني أنَّ كلمة الحركة الواردة في التعريف تدلّ من قريبٍ على أنَّ التخيّل عمليّة دينامية، وإذا كان التخيّل ناتجاً عن الإحساس، فإنَّ صور الإدراك الحسّي قد تبدو مشابهةً لصور التخيّل مع فارق بينهما تحكمه فكرة القوّة والضعف، وتوجّهه مقولة الوضوح والغموض”. مبيناً أنَّ إدراك الأشياء المحيطة بالإنسان كانت السبب الأول للتخيّل، ومن ثمَّ إحساسه شيئاً فشياً بأنَّ هناك أشياء لم يتأتَّ له فهمها فهماً صحيحاً، وهذا ما جعله يذهب نحو تخيّلها، وتخيّل ما هو قريب منها.

الإدراك والإحساس كانا عدّة الشاعر في بناء عوالمه وفهمها، وبالتالي بناء عوالم جديدة تختلف عن العالم الواقعي. الدكتور سعيد جبار يفسّر قول أرسطو “عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة؛ فإنَّ المؤرّخ والشاعر لا يختلفان بأنَّ ما يرويانه منظوم أو منثور (......) بل هما يختلفان بأنَّ أحدهما يروي ما وقع على حين أنَّ الآخر يروي ما يجوز وقوعه”. مشيراً إلى أنَّ أرسطو يضع في قوله هذا “حدوداً أولية  بين الوقائعي والتخييلي فربط الأول بعمل المؤرخ الذي يهتم برواية ما وقع بالفعل، وربط الثاني بعمل الشاعر- ويبدو أنَّ الشاعر هنا يحيل على ناظم الملاحم السردية- الذي يروي ما هو غير واقعي ولكن محتمل الوقوع”. هذه الحدود التي رسمها أرسطو بين الواقعي والمتخيّل كانت اللبنة الرئيسة في بناء عوالم الأدب، ابتداءً من الشعر، مروراً بالملحمة، والقصة، وصولاً إلى المسرح وعوالمه. وبالعودة إلى آراء دارسي السيرة الشعبية؛ مثلاً، فإنَّ التخييل الذي بنيت عليه هذه النصوص كان انتقالاً من الواقع الذي تعيشه الجماعة الشعبية، إلى عالم متخيّل تتمنى هذه الجماعة لو كان بديلاً لعالمهم الذي يعيشون فيه.

كان تأثير أرسطو على الفلاسفة الذين جاؤوا بعده تأثيراً واضحاً، لاسيّما في الفلسفة الإسلامية التي نقلت آراءه وحاولت التوسّع فيها، فلم يكن الفارابي وابن سينا والكندي ومن ثمَّ ابن رشد بعيدين عن هذه الآراء، بل شرحوها وثبّتوا وجهات نظرهم فيها. ويؤكّد الدكتور عاطف جودت نصر أنَّ الفارابي اعتمد على فلسفة أرسطو في التخيّل، “ومهّد بإقامته نظرية المحاكاة على أساس سيكولوجي، الطريق لمن تلاه من الفلاسفة من أمثال مسكويه وابن سينا وابن رشد، وأوضح لهم الصلة بين الشعر والتخيّل، ومن ثمَّ بدأت كلمة التخيّل ومشتقاتها تدخل في دائرة المصطلح النقدي والبلاغي، تقترب منه على استحياء في النصف الثاني من القرن الرابع، ثمَّ يتدعّم وجودها مع إضافات ابن سينا في القرن الخامس، وابن رشد في القرن السادس، حتَّى تصل إلى أقصى درجات القوّة والوضوح عند حازم القرطاجنّي في القرن السابع”. رؤية أرسطو وفلسفته للتخيّل وقبلها المحاكاة لم تتوقّف عند الفلسفة الإسلامية، بل ما زالت آثارها لدى الباحثين والنقّاد المعاصرين، حتَّى وإن كانت تفسيراتهم تبتعد قليلاً عنها، إلاَّ أنَّها كانت المرجع الرئيس للتخيل ومفاهيمه المتعدّدة. وهذا ما يؤكّده المصطفى مويڤن الذي يشير إلى أنَّ المقاربات المعرفية حول الطبيعة الوظيفية للتخيّل تباينت، وتغيّرت رؤاها في تكوّن المعرفة وحصولها على الرغم من اللغز الكامن في عمليّة التخيّل نفسها، فقد “ذهب الفلاسفة إلى اعتبار الصورة نسخة صادقة عن الإحساس وترتبط بالجسد. فقد كان التخيل على الدوام عنصراً مشوشّاً وملغّزاً للفلاسفة حتى الوقت الحاضر”، كما يرى مويڤن. فقد ارتبط التخيّل بالتوهم والتمثّل على يد الفلاسفة المسلمين من جهة، ومن ثمَّ فهو عملية تأليف بين الصور، وكيفية تشكيلها لدى النقاد المعاصرين. ويؤكدّ مويڤن أنَّ مفهوم التخييل ارتبط في “فترات متقدّمة من الثقافة العربية بالتشبيه المتمثّل بالممارسات الشعرية والبلاغية التي عرفها الشعر العربي. بحيث بنيت نظرية التخييل العربية على الشعر العربي، ما دام هذا الأخير يشكّل (ديوان العرب)، في غياب قواعد مؤسّسة، في المقابل، لقيام نظرية تهمّ النثر العربي وقصصه بخاصة”. وإذا كانت الثقافة العربية قد تحدّثت طويلاً عن الخيال والتخييل في الشعر، لأنَّه النوع الأدبي الأكثر انتشاراً لديها، فإنَّها في الوقت نفسه عملت مع التحوّلات الجديدة فيها على الالتفات إلى النثر والتنظير للتخييل في نصوصها القديمة والحديثة معاً، على مستوى الحكايات القديمة أو السير الشعبية وصولاً إلى الرواية الحديثة.

وفي البحث عن رؤية جديدة لهذا المفهوم، يُلاحظ أنَّ الروائية إيريس مردوخ مثلاً، ترى أنَّ “التخييل fictionalization في الحياة يحدث لأنَّ الناس يبنون حول أنفسهم أساطير، ما تلبث بعد ذلك أن تأخذ بزمام حياتهم. إنَّهم يشعرون بالحصر ومن ثمَّ يقع اختيارهم على آخرين لكي يلعبوا أدواراً في حياتهم”، كما ذكرت باتريشيا ووه في كتابها (الميتافكشن.. المتخيل الواعي بذاته: النظرية والممارسة). هذه الرؤية لم تكن حصراً لدى الجماعات الإنسانية البدائية، بل ما زالت حتَّى اليوم تشغل عقل المبدع الذي يحاول تقديم تفسيرات للحياة ولما يدور حوله، وبهذا كان السرد عملية إبداعية لبناء عوالم جديدة بعيداً عن العوالم الواقعية، وهذا يكمن في رغبة المبدعين بالهروب من هذه العوالم، و”استناداً إلى هذه الرغبة [رغبة في استعادة ما خفي عنه وما تجاهله أو ضيّعته صروف الدهر في غفلة منه] لن يكون النشاط السردي عنده سوى محاولة حدود عالم إنساني مضاف يتحرّك عن (البدايات) في مجال السرد التخييلي عن الرغبة في تلمّس البدايات الأولى للكون إلا في الظاهر. فبدايات السرد ليست سوى صورة مصغّرة عن البدايات الكبرى في الوجود” بحسب الناقد سعيد بنكراد في كتابه (الشرعية وسلطة المتخيّل). فالتخييل في العوالم السردية، القديمة منها والحديثة، عودة للجذور وعوالم التفكير الأولي، في محاولة من قبل مبدعي هذه النصوص للعودة إلى يوتوبيا مفقودة، و”بذلك يكون هذا العالم الموصوف في السرد جزءاً من تصوّر شعبي للحياة يُسنده فكر تناظري قائم على التشابه بين كائنات وأشياء وظواهر وطبائع مختلفة. وتلك هي القوّة الضاربة للسرد وذاك مصدر طاقات التأثير داخله. فهو ليس حجاجاً يعتمد المنطق في بناء حقائقه، بل يستند إلى المحتمل الذي يبني عوالمه خارج سلطته الزمنية الواقعية، لذلك لا يبشّر بحقيقة قابلة للتصديق، بل يبني عالماً هو مرجع ذاته ومرجع حقائقه. (فلا صلة للسرد بالواقع، إنَّه يكتفي بمنح معنى لأشيائه). ورغم ذلك، فإنَّ ما يستهوينا هو هذا المعنى بالذات، لأنه لا يقيّدنا بل يغرينا بممكنات تعشّش في الافتراض وحده”. فالتخييل في النصوص السردية معني بإنشاء عوالمه الخاصة، تلك العوالم التي من شأنها أن تعيد بناء الواقع الذي لم تستطع الجماعة الشعبية التكيّف معه، لذا كان عليها أولاً، وعلى المبدع ثانياً بناء عوالم بعيدة عن الواقع.

وعلى الرغم من الطروحات القديمة التي حاولت فهم الخيال والتخييل، ومحاولة الفلاسفة والباحثين والنقّاد طرح مفاهيمهم الحديثة حوله، غير أنَّ حدود هذا المفهوم ما زالت غير مرسومة بشكل واضح، وهو ما دعا الدكتور سعيد جبار لنقل التحوّلات التي تدور حول هذا المفهوم من وجهة نظر الناقد لوران جيني، ومن ضمن تعريفاته:

‌أ. التخييل نقيضاً للحقيقة: ويمكن أن نعتبر التخييل في هذه الحالة نوعاً من الكذب المقصود أو الهادف.

‌ب. التخييل بوصفه بناءً تصوريّاً: وهو المعنى الذي يقرّبنا من المفهوم الفلسفي للتخييل بالصورة التي يحدّدها كانت (Kant) وهو يتحدّث عن الزمن والفضاء كتخيلات استكشافية. إن هذه التخيلات التصورية ليست مخالفة للحقيقة كما هو الشأن بالمعنى الأول، بل هي تصوّرات ذهنية مساعدة على تأويل الواقع.

‌ج. التخييل بوصفه عالماً دلالياً: ويتعلّق هذا المعنى بعوالم التخييل المدمجة في الأعمال الأدبية، التي تصف هذه العوالم وتحدّد علاقاتها بالواقع؛ وتستلهم العوالم دلالتها من نظرية العوالم الممكنة.

‌د. التخييل بوصفه جنساً أدبياً: اعتادت الدراسات في المجالات الأنكلوفونية والفرانكفونية على استعمال لفظ (التخييل) للدلالة على نوع أدبي يقابل (اللاتخييل)، أي مجموع الأنواع الجادة (مثل السيرة الذاتية والشهادات...).

‌ه. التخييل حالةً ذهنية: وفي هذا الإطار يزداد المفهوم اتّساعاً ليشمل تلك الحالات التي تتقمّص فيها الشخصيات أدواراً خاصة على خشبة المسرح أو في السينما؛ إضافة إلى الحالات الذهنية التي تتولّد عن قراءة عمل تخييلي ما.

وبهذا يحدّد لوران جيني حدود التخييل وأنواعه، وهي حدود ليست نهائية، والتعريفات التي قدّمها كانت من وجهة نظره هو، أمَّا التعريف الذي خرج به الدكتور سعيد جبار بعد مناقشته لهذا المفهوم منذ أرسطو مروراً الفلسفة الإسلامية ووصولاً إلى المفكرين المعاصرين، فيحدّده بقوله “التخييل إذن هو محيط معرفي ممتد الأطراف تتحرّك فيه الذاكرة الإنسانية لتبدع من خلاله ما تعتقد أنَّه يلامس الحقيقة من بعض جوانبها، وترى فيه نموذجاً لما تطمح إليه وترغب في تحقيقه، فهل يمكن أن يكون تعويضاً عن الواقع المحدود الذي يتحرّك فيه الإنسان مادياً؟”. وإذا كان التخييل يستند إلى الذاكرة، وكيفية إعادة إنتاج الصور المرئية والمسموعة والملموسة، فإنَّه في الأدب الشعبي عموماً، وفي السيرة الشعبية تحديداً، يعمل على إعادة إنتاج الماضي بصوره العديدة في سبيل رسم مستقبل يخلّص الإنسان من وطأة القهر والتسلّط، ويعيد له القيم التي كان يحلم بها.