أزمة الهويَّة والانتماء كوريولانوس

ثقافة 2024/11/06
...

ترجمة واعداد: مي اسماعيل




“كوريولانوس” من أواخر المسرحيات التراجيديَّة التي كتبها الشاعر البريطاني “وليام شكسبير”، غالباً في سنوات 1605 -  1608. تتعمق المسرحيَّة بتصوير عالم القوة والسياسة المضطرب في روما القديمة، وتحكي قصة “كايوس مارسيوس”، بطل الحرب الذي تحوّل (دون حماسة) إلى سياسي، والذي أدى صراعه ضد عامَّة الناس إلى عواقب مأساويَّة. وتتناول هذه الرواية المظلمة موضوعات الرجولة والشرف وتعقيدات الحياة السياسيَّة. تقف المسرحيَّة شاهداً على قدرة شكسبير لحياكة سردياتٍ خالدة يتردد صداها عبر الزمن، وتعكس تعقيدات الطبيعة البشريَّة والهيكليات المجتمعيَّة، وتضع بالاعتبار التوازن الدقيق بين القناعة الشخصيَّة وتوقعات المجتمع؛ وهو موضوعٌ لا يزال ذا أهميَّة في الخطاب المعاصر.

استخلص شكسبير النصَّ من أعمالٍ أدبيَّة بارزة؛ بما في ذلك كتاب “حياة” للفيلسوف والمؤرخ اليوناني “بلوتارخ” (45 - 125 م؛ من أهم مؤلفاته كتاب “السير المقارنة لعظماء اليونان والرومان”، وحاول استكشاف الطريقة التي يشكل بها الأفراد الأحداث التاريخيَّة؛ فكانت أعماله أزواجاً من السير الذاتيَّة أو “الحياة الموازية”؛ إذ تصاحب كل سيرة شخصيَّة يونانيَّة سيرة لشخصيَّة رومانيَّة). كما استلَّ شكسبير من كتاب “تاريخ روما” للمؤرخ الروماني “تيتوس ليفيوس” أو “ليفي-Livy” (نحو 59 ق.م - 17 م).

ديناميكيَّة الشخصيات والموضوع

“كوريولانوس” مأساة مُستَفزّة للتفكير، ورغم أنها تدور في أوائل سنوات جمهوريَّة روما؛ لكنها تكاد تصلح (أو تنطبق) على كثيرٍ من السياقات السياسيَّة عبر التاريخ والدول. وعلى نقيضٍ مباشرٍ من مسرحيَّة “أنطونيو وكليوباترا” تقدم كوريولانوس منظوراً أكثر قتامة عن السلطة والهويَّة.. يستقطب النسيج الغني للموضوعات والشخصيات اهتمام الجمهور، ويتحدى تصورهم للقيادة والولاء.

تتعزز حدة العواطف في المسرحيَّة من خلال تصوير العلاقات الأساسيَّة بين شخوصها؛ ولعلَّ “فولومنيا” والدة كوريولانوس من أهم تلك الشخصيات؛ إذ تمتلك نفوذاً قوياً في حياته. تشبّعت تطلعاتها لمسيرة ابنها بالمُثُل والشرف الرومانيين؛ لذا دفعته دفعاً نحو القيادة. وكان لطموحاتها تكلفة شخصيَّة باهظة؛ ما يكشف عن خللٍ مأساوي في سيطرة الأم.

الشخصيَّة الرئيسة هنا “كايوس مارسيوس- Caius Marcius” (والذي سيُعرف لاحقاً باسم “كوريولانوس-Coriolanus”) جنرال روماني مشهور ينتمي للطبقة الأرستقراطيَّة، يُجسّدُ الشجاعة والفخر العميق. تبدأ المسرحيَّة بعرض حال جمهوريَّة روما؛ حيث تسود حالة من الاضطراب.. يتضور المواطنون جوعاً ويشعرون بالاستياء، الأمر الذي يخلق أجواءً متوترة من التمرد.. هنا يظهر كوريولانوس؛ الذي يجري تقديمه بصفته جندياً شجاعاً معروفاً ببراعته العسكريَّة ولكنه مبتدئ في السياسة.. يتضح ازدراؤه لعامَّة الناس حين يعدُّهم “جُرَيبات مرضيَّة” و”زائدين عن الحاجة”، وهو الشعور الذي سيلازمه مع تقدم المسرحيَّة. مدفوعاً بوالدته الطموحة “فولومنيا- Volumnia” يسيطر على مدينة كوريوليس ويحصل على لقب كوريولانوس. وإذ يجري الاحتفال بنصره العسكري؛ تكون تلك نقطة بداية سقوطه السياسي.. يواجه كوريولانوس عند دخوله الساحة السياسيَّة صراعاً مع إعجاب الناس به؛ وهو ما لا يسعى إليه.. يعيق كبرياؤه (وتآمر الخصوم) طريقه نحو أنْ يصبح قنصلاً، وتصير غطرسته وعدم قدرته على الانصياع لإرادة المواطنين سيفاً ذا حدين يقود إلى عزلته ونفيه من روما في النهاية.. تتفاقم المأساة حينما يتحالف كوريولانوس (مدفوعاً بخيبة الأمل) مع عدوه القديم “أوفيديوس- Aufidius” الذي حاربه مراراً درءاً لغزو روما؛ وتتأرجح علاقتهما بين العداوة وارتباط مصيريٍ مُعقّد يزيد من التشويق في السرد.

وعلى الجانب المقابل وقف المفوضون “Tribunes” ((المنتخبون في روما القديمة لحماية مصالح الشعب)) الذين يُمثّلون صوت المواطنين العاديين.. يتلاعب هؤلاء بميول الجمهور ضد كوريولانوس، مُعبرين عن تقلبات السلطة السياسيَّة. ينتقد شكسبير هنا المكائد السياسيَّة والصراع بين الارستقراطيين والعامَّة، مسلطاً الضوءَ على قضايا اجتماعيَّة مرتبطة بالمجتمع آنذاك والآن. ويلفت النظر كيف يمكن للديماغوجيَّة أنْ تطغى على القيادة الحقيقيَّة. وهذا الشد والجذب بين النخبة والجمهور يُقدّم تعليقات ثريَّة على الحكم تبدو مناسبةً للمواقف العامة في أزمان ودولٍ عديدة وحتى اليوم. 

أما أوفيديوس فكان بمثابة اختبار لشخصيَّة كوريولانوس؛ فتعاملاتهما مشحونة بالتوتر، تتأرجح بين جوانب الولاء والخيانة.. قدّر أوفيديوس شجاعة كوريولانوس، وكشف عن أبعاد أعمق لرفقة المحاربين التي يدعمها احترام عميق غير معترف به، وكشف الحوار طبيعة تعاملاتهما المضطربة التي تتميز بالتنافس والجذب. استخدم شكسبير الاستعارات على نطاقٍ واسعٍ في هذه المسرحيَّة لإثراء النص ونقل معانٍ أعمق، ومن الاستعارات المهمة مقارنة كوريولانوس بالأسد، مع التأكيد على قوته ونبله ولكنْ أيضًا عزلته ونزوعه نحو العنف؛ إذ يقول أوفيديوس عن خصمه: “إنه أسد أفتخر بمطاردته”.

البطل

كوريولانوس نبيل الأصل والشخصيَّة، ربتهُ والدته الحازمة على تقاليد الخدمة العامة والفخرالشخصي. لا يهتم كوريولانوس كثيراً بالمال أو الممتلكات، ولا يبدو أنه يرغب بالزعامة أيضاً.. الفخر الصافي صفته المميزة؛ حتى ليبدو أحياناً شديد التواضع. لا يرغب بسماع المديح من أحد؛ أو حتى أنْ يُتحَدث عنه إطلاقاً.. ولا يستطيع إخفاء ازدرائه لعموم شعب روما.. لقد بدأ محارباً فخوراً بقدرته العسكريَّة، وانتهى مأساوياً بسبب اختياراته والتأثيرات الخارجيَّة عليه؛ إذ جسّدَ خصائص البطل “المضاد” بغطرسته وازدرائه للجماهير.. رغم انه بطلٌ تراجيدي في مسرحيَّة لشكسبير؛ لكنْ لم يجرِ تقديمه مثل البطل الروماني الكلاسيكي؛ من أمثال بروتس أو سينسيناتوس أو كاتو. ولعلَّ وصف شكسبير له يعني أن أنانيته (بالنسبة للمؤلف) أهم من وطنيته. كان الرومان يعدّون الولاء للدولة هو الفضيلة العليا؛ وكوريولانوس في النهاية فخورٌ جداً بحيث إنه لا يهتم لأي شيء أو لأي شخص أكثر من نفسه.. 

تُلهم شجاعته الشخصيَّة الجنود الآخرين ليتبعوه الى المعركة بإندفاعٍ يقترب من الحماس الديني؛ لكن المسرحيَّة لا تُقدمه كزعيمٍ طبيعي يشعر بالراحة مع مرؤوسيه أو يحترمهم. والخصال التي تجعله الجندي الأكثر شهرة في روما ليست هي السمات اللازمة للقيادة السياسيَّة الناجحة.. يبدو أنَّ كوريولانوس كان يُدرك ذلك؛ رغم عدم انهماكه مطولاً بتحليل الذات.. يتصرف كوريولانوس وكأنَّ خدمته العسكريَّة الاستثنائيَّة يجب أن تكون كفيلة لوحدها بمنحه الحق في منصب القنصل؛ وليس عليه أنْ يضطرَّ إلى استمالة الناخبين.

يسلط العديد من المعلقين الضوء على غطرسة كوريولانوس، حيث يعدُّ كبرياءه الشديد عنصراً أساسياً في شخصيته. يصيح كوريولانوس غيظاً في إحدى مقاطع المسرحيَّة وهو محاط بأعدائه وحاسديه؛ حينما قادت غطرسته ورفضه الخضوع لإرادة الشعب إلى نفيه: “أنا أنفيك! هناك عالم في مكانٍ آخر..”.. ولكن ليس ثمة عالم آخر لروماني مثل كوريولانوس؛ الذي نشأ على مبادئ خدمة الصالح العام ومحاربة الأعداء باسم روما؛ فهو يأخذ روما معه حيثما ذهب.. يرى الآخرون فيه شخصاً لا يرحم، وآلة موجهة للتدمير؛ وهذا كان رأي رفاقه القدماء الذين ناشدوه أنْ يفكَّ حصاره لروما. يدّعي كوريولانوس، وهو يقف وحيداً وعنيداً في هذا المشهد، أنه قادر على مقاومة دوافع الغريزة والوقوف كما لو كان رجلاً قد خلق نفسه كما يشاء ولا يعترف بأي أقارب آخرين. لكن كلمة “روما” و”روماني” تكررت خمس عشرة مرة في هذا المشهد وحده؛ عشر منها على لسان كوريولانوس. وحينما تتضرع إليه والدته (وزوجته وابنه الوحيد) أنْ يفكَّ الحصار؛ تصبح أعباؤه أثقل مما يمكنه تحملها؛ وهو يعرف أنه إذا أنقذ روما فسوف يهلك في نهاية المحنة.. وسيبقى منبوذاً مُبعداً على كل حال، لا يستطيع إيجاد وطنٍ له على أي مكان في الكوكب.

الحليف الخصم

“تولوس أوفيديوس”، الجنرال الفولسكي (Volsci = من قبائل إيطاليا التي ضُّمت الى حكم الرومان) معروفٌ أساساً بمزاجه المتقلّب؛ رغم أنه مواطن مخلص لقومه ومقاتل نبيل. هو البطل العسكري الأهم لدى قومه، وكما هي الحال مع كوريولانوس؛ ترتبط هويته ارتباطاً وثيقاً بشهرته كمحارب. في بداية المسرحيَّة كان لديه عداءٌ شخصيٌ مع كوريولانوس (بعد خمس مواجهات في ساحة الحرب)، ولا يرغب بشيءٍ أكثر من القتال معه حتى الموت. ولكن حين يأتي كوريولانوس إليه في عقر داره بأنتيوم (Antium: مدينة ساحليَّة جنوب روما) طلبا للتحالف، يعانقه أوفيديوس كأخ. لكنه يندم سريعاً على ذلك بعدما يرى إعجاب قواته بكوريولانوس، ويشعر بالغيظ منه ثانية حينما يُقرر الأخير التفاوض على السلام مع روما؛ فيلتقي بمجموعة من المتآمرين، وعندما يعود كوريولانوس إليهم مرة أخرى يُتهم بالخيانة ويُقتل. بعد موت كوريولانوس يشعر أوفيديوس بالأسف ويرثيه بنبل.. يختلف أوفيديوس عن منافسه من نواحٍ عديدة؛ فهو رجلٌ عمليٌّ ومحللٌ بارعٌ للمواقف. ولعله كان مخلصاً حينما بدأ تأبينه لكوريولانوس بالقول: “لقد زال غيظي، وأنا مصعوقٌ بالحزن..”؛ طالما أنه غالباً ما اعترف بتفوق كوريولانوس وانتقد أفعاله فقط، وليس طبيعته.. 

يفهم أوفيديوس شخصيَّة كوريولانوس جيداً؛ ويرى أنَّ خصمه لا يرتاح لمديح الناس، ويقترح عدة أسبابٍ لنفيه: كبرياءه، سوء حكمه على الأمور، أو مزاج المقاتل الذي لا يصلح للسياسة؛ ولا يتردد في التلاعب بوجود كوريولانوس أو استخدام شعب فولسكي للانتقام الشخصي منه. يرى بعض النُقّاد أنَّ أوفيديوس يفهم كوريولانوس جيداً لأنهما متشابهان كثيراً.. ورغم وجود بعض المصداقيَّة في اتهام أوفيديوس لكوريولانوس بخيانة حلفائه الفولسكان؛ لكنَّ ادعاءه التزدرائي بأنَّ كوريولانوس أنقذ روما بسبب.. “بضع قطرات من دموع النساء” يشي بنزق أوفيديوس أكثر من خلل في شخصيَّة كوريولانوس.

عقدة الأم- الابن

في إصرارها الشرس على أنها تهتم بمكانة ابنها البطوليَّة أكثر من حياته؛ تبدو فولومنيا تمثيلاً للسيدة الرومانيَّة النمطيَّة، وهي تترنمُ بقيم الجمهوريَّة. لكنها تبدو لاحقاً وكأنها أكثر ستراتيجيَّة ومرونة الى حدٍ ما؛ خاصة محاولاتها الناجحة للتفاوض مع ابنها الوحيد كي يفك الحصار عن روما. جعلتها قدرتها على استمالة رأي كوريولانوس نحو التفاوض شخصيَّة محوريَّة في سياق السرد وتميُزها لتكون الوحيدة القادرة على التأثير فيه.  

يعاني كوريولانوس وفولومنيا معا ديناميكيَّة عقدة الابن- الأم ؛ فهي تتلاعب بأفكاره نحو الطموح السياسي، وتجعله يعيش الصراع ما بين الواجب الشخصي وبين توقعات الجمهور. تُصرّح الأم بفخر أنها تفضل أنْ يسقط ابنها في المعركة إذا كان ذلك يصبُ في هيكل مجده ورفاهيَّة روما. يرى بعض النُقّاد أن دوافعها لترى ابنها مُكللاً بالغار تنبع من رغبتها الشخصيَّة بأن تكون محاربة؛ وهو أمرٌ منعتها تقاليد روما منه. وبعد انتصاره في كوريوليس كانت أول من قال: “لم يبق إلا شيءٌ واحدٌ فقط..”؛ إشارة الى تولي ابنها منصب القنصل.. لم يُطرح قط التساؤل ما إذا كان هذا المنصب يُناسِبه أو يُناسب طموحاته؛ لكنه كان يمثل ذروة طموحاتها لأجله.

تُخطط  فولومنيا لتنصيب ابنها قنصلاً، وتضع استراتيجيَّة لذلك.. فهي ترى أنَّ عدد جراحه في المعارك أمرٌ مهمٌ (سياسياً) ويجب أنْ يراه الشعب.. هنا تُشجعه للقبول بالتسويات والتنازل عن مبادئه؛ وهي ذات المبادئ التي زرعتها فيه منذ الصغر؛ للحصول على أصوات الشعب. ورغم انها علّمتهُ احتقار المواطنين العاديين وتقدير مكانته بشدة؛ لكنها تدعوه لوضع تلك المبادئ جانباً وأنْ يتظاهر بما ليس فيه. وقد انصاع لها الابن كما أرادت.. وعند نهاية المسرحيَّة تَحثه مجدداً على التنازل عن شرفه، وتتضرع له أنْ يعفو عن روما ويكون صانع سلام؛ وكأنها غافلة عن مفارقة أنها هي التي ربته ودربته ليكون محارباً.. وفي سياق حُجتها تنطق أقوالاً متناقضة؛ إذ تقول مرة في وصف إنجازاته: “ما من رجل في العالم”.. كان “أكثر ارتباطًا بأمه”. لكنها تقول له أيضاً: “لم تُظهِر في حياتك أبداً أي مجاملة لأمك العزيزة..”. ثم تُشعرهُ بالخجل بالركوع أمامه؛ وهو انقلابٌ مذهلٌ في العادات الرومانيَّة القديمة التي تنصُّ على أنَّ الأولاد يجب أنْ يُوقروا والديهم. وتختم حديثها بأنْ تصفه بسبب موتها المحتمل، وأنها ستعود الى روما لتموت بين جيرانها حين تحترق المدينة (إذا لم يتراجع كوريولانوس عن حلفه مع أوفيديوس ويفك حصاره لروما).. وهي في كل ذلك الحوار تبدو غير مدركةٍ أنه إذا سحب الفولسكيين من حصار روما فإنَّ ذلك سيقود الى هلاكه؛ وهذا ما وقع في خاتمة المطاف.. 

الخاتمة المأساويَّة

الهويَّة مشكلة بطبيعتها في هذه المسرحيَّة؛ شخصياً واجتماعياً، ويُظهِر لنا البطل أن الهويَّة مستحيلة أساساً؛ إذ تكشف الحوارات استحالة التعريف المُطلق لها. يسعى كوريولانوس الى تعريف نفسه ككيانٍ مستقلٍ اجتماعياً؛ لكنه يكتشف أنَّ الذات ما زالت معتمدة على الحقل الاجتماعي الذي تقف فيه. ثم يحاول الانفصال عن والدته نفسياً، لكنه يفشل. وأخيراً يحاول تسمية نفسه لغوياً؛ لكنه يفشل مرة أخرى. يفشل كوريولانوس أنْ يصبح “صانع ذاته بذاته” على ثلاثة أصعدة، كما قادت هويته الذاتيَّة الى نفيه. وأخيراً لقي حتفه لعدم رغبته بالتفاوض مع القوى التي تسعى لإسقاطه. وإذ جعلته براعته العسكريَّة بطلاً أمام العامة؛ لكنه فقد قدرة التواصل مع الآخرين، وجعله خوفه من الديمقراطيَّة العامة عدواً في أعين الشعب.. ولم يعُد له مكانٌ في الحياة السياسيَّة الجديدة لمدينته.

بينما يشق كوريولانوس خضّم صراعاته المتقلبة؛ تصبح المواجهة النهائيَّة أمراً حتمياً.. ممزقاً بين ولائه لوالدته ومدينته؛ يبحث عن الانتقام ضد روما وينضّم الى جانب أوفيديوس. لكن هذا التحالف يقود الى مأساة ملحميَّة تكشف عن صراعات كوريولانوس النفسيَّة الداخليَّة والوجوديَّة. يتصاعد التوتر بشكل حاد حينما تتضرع فولومنيا الى ابنها أن يُظهِر الرحمة (حينما أوشك أن يحتل روما مع حليفه).. تستقطب تلك اللحظة قلب المأساة حينما تتصارع الروابط العائليَّة مع الالتزامات السياسيَّة؛ وكان لعدم قدرته على التوفيق بين تلك القوى نتائج قادتَ إلى الخيانة والعواقب الوخيمة.. وأخيراً الى مصرعه.

في خاتمة المطاف تصلح شخصيَّة كوريولانوس لتكون محط دراسة عميقة عن الكبرياء والاستقامة وتعقيدات العلاقات الإنسانيَّة؛ إذ يرسم مساره صورةً لمخاطر الالتزام بالقناعات الشخصيَّة في ظل بنية سياسيَّة متقلبة.. كما تظل تجربته انعكاساً قوياً لكيفيَّة تشويه التوقعات المجتمعيَّة للهويَّة الحقيقيَّة، وتتحدى القارئ (أو المُشاهد) للتأمل في تأثير دايناميكيات القوة في حياته.

كوريولانوس بمنظور اليوم

غالباً ما تقبع مسرحيَّة كوريولانوس في ظل مسرحيات أكثر شهرة لشكسبير؛ لكنَّ أهميتها تلقى صدى لدى الجماهير المعاصرة، إذ لا تزال موضوعات القوة والحالة الإنسانيَّة قائمة في المشهد السياسي الحديث، وقد تكون لغتها الكثيفة وموضوعاتها المعقدة صعبة على الجمهور، رغم أنها استقطبت الاهتمام حديثاً. شهدت السنوات الأخيرة إعادة اقتباس “كوريولانوس” في المسرح والسينما، بمنظورٍ معاصرٍ يتجدد مراراً؛ فالطبقات المعقدة لشخصيَّة كوريولانوس تدعو للتأمل عن حدود الفخر الشخصي ضمن السياق المجتمعي؛ ما يشير إلى أنَّ الماضي يستمر بالتأثير في الحاضر. وتدعو لغة شكسبير البليغة والتطور الغني للشخصيات القراء إلى التعامل مع حقائق غير مريحة؛ فالرواية المأساويَّة تحفل بعواطف حادة وتعقيدات سياسيَّة تحث على التأمل في الولاء والفرديَّة. وبذا تقف كتذكيرٍ واضحٍ بمدى هشاشة القوة وطبيعة النضال البشري الدائمة. كل ذلك طرحه شكسبير بلغةٍ شديدة وقاسية في كثيرٍ من الأحيان، لتُقدّم الحقائق الوحشيَّة التي فرضتها الحرب والصراع السياسي. 


• المصادر: موقع “نيوبوك ريكومنديشن”، موقع “إي- نوتس”، موقع “إديو بيريدي”