أحمد حسن
تتردد في عصرنا الحالي أصواتٌ تندد بالازدواجية، التي باتت سمة مميزة للسياسات الغربية، حيث تُرفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها تُسقط في هاوية الانتقائية عندما تصطدم بالمصالح السياسية والاستراتيجية. يبدو أن القيم التي صُدّرت إلى العالم من خلال خطاب أخلاقي فلسفي وُلد من رحم التنوير الأوروبي، وتبلورت مفاهيمه في نظريات فلاسفة مثل جون لوك وجان جاك روسو، قد أخذت اليوم بُعدًا نقيضًا يُستخدم لتبرير السيطرة والهيمنة.
فما كان يومًا دعوةً للحرية والمساواة بين البشر، أضحى أداةً تخضع للتلاعب والمصلحة، ويُفقد هذه الشعارات جوهرها الأصيل، الأمر الذي يطرح أسئلة عميقة حول أصالة التزام الغرب بهذه القيم.
ولعل الفيلسوف الألماني هيغل يذكرنا في تحليله للروح المطلقة بأن القيم والمفاهيم لا تستقر في حالة مطلقة، بل تمر بمراحل من الصراع والنفي والتحول. وفي السياق الغربي، يبدو أن "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" قد تجاوزت مفاهيمها الأصلية لتتحول إلى وسائل تُخضع فيها الشعوب الأخرى لمصالح القوة. فالديمقراطية ليست، كما يدّعي البعض، قيمة شاملة تُمنح لجميع الشعوب، بل هي أداة تُستخدم لتوجيه مسارات سياسية تتوافق مع أهداف السيطرة والهيمنة. ولعل هذا يتضح في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث نجد أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يتجاهل التزامه الصارم بقيم حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني. إن المذابح والتهجير والانتهاكات اليومية تُبرر على أسس القوة المطلقة، فتُغض الطرف عن هذا الشعب المقهور تحت حجج "حق الدفاع عن النفس".هذا التناقض يجعلنا نستذكر ماركس وتحليله لمفهوم "الهيمنة الأيديولوجية"، حيث تتحكم الطبقات الحاكمة ليس فقط بالاقتصاد والسياسة، بل بالفكر والقيم، وتُعيد صياغتها وفق مصالحها. فالأنظمة الغربية التي تُنادي بحقوق الإنسان هي ذاتها التي تبرر دعمها لأنظمة استبدادية عندما تُعزز هذه الأنظمة مصالحها. فعلى سبيل المثال، خلال فترة الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة دكتاتوريات قمعية في أميركا اللاتينية، مثل نظام بينوشيه في تشيلي، بحجة حماية الديمقراطية من الخطر الشيوعي، في حين أن هذه الأنظمة نفسها كانت تفرض قيوداً صارمة على حرية شعوبها، وتزج بمئات الآلاف في السجون تحت ذريعة الأمن القومي. ويُظهر هذا كيف أن "الديمقراطية" ليست مبدأ ثابتًا، بل أداة تُخدم وفق مقتضيات السلطة. وبنظرة أوسع إلى الصراعات المعاصرة في الشرق الأوسط، نرى أن الدول الغربية تدعم أنظمة استبدادية في الشرق الأوسط، رغم انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان، بذريعة الحفاظ على الاستقرار وحماية المصالح النفطية. فكما أشار إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، فإن الإمبريالية الحديثة تُمارس تحت غطاء من ادعاءات إنسانية وأخلاقية، لكنها في جوهرها تُكرس الهيمنة والاستغلال. هذه الازدواجية تفضح عمق النفاق الغربي، وتضع علامات استفهام كبيرة حول مدى التزامه الحقيقي بالقيم الإنسانية. إن النظر إلى هذه القيم من منظور فلسفي يدفعنا لتبني مقاربة رولزية حول "العدالة" وفق "حجاب الجهل"، حيث يقترح رولز إن يتم اتخاذ القرارات بعيدًا عن المصالح الذاتية، لضمان مبدأ العدل للجميع. فإذا طُبّق هذا المفهوم في السياسات الغربية، لوجد الغرب نفسه مضطراً إلى تبني موقف أكثر إنصافاً تجاه جميع الشعوب، بما فيها الشعب الفلسطيني. غير أن الواقع يكشف أن هذه القرارات لا تستند إلى مفاهيم العدالة المجردة، بل إلى مصالح معقدة تتشابك مع رغبات الهيمنة وتعزيز السلطة. ويبدو أن الخطاب الحقوقي بات أداة بيد القوى الكبرى؛ أداة تُستخدم عندما تخدم المصالح وتتجاهل حين تتعارض معها. تُظهر الجرائم من إبادة جماعية في غزة وتهجير وقتل للمدنيين في جنوب لبنان هذا التناقض بشكل صارخ. ففي الوقت الذي تدعم فيه القوى الغربية تدخلات دولية تحت مسمى "حماية حقوق الإنسان"، نجدها تتجاهل الانتهاكات الواسعة التي تُرتكب بحق الفلسطينيين واللبنانيين، بل وتقدم الدعم العلني للكيان الإسرائيلي، تحت ذريعة "الأمن القومي"، مما يُسقط مفهوم العدالة العالمية. فكيف يمكن للعالم أن يؤمن بمبادئ حقوق الإنسان إذا كانت تُطبق بانتقائية صارخة؟ وكيف يمكن لهذه الشعارات أن تكون مرجعاً أخلاقياً إذا ما زالت أداة تخدم المصالح السياسية؟.
إذاً، كيف يمكن للأجيال الجديدة، سواء في العالم العربي أو في أميركا اللاتينية، أن تتبنى هذه القيم وتراها أنموذجًا للحياة، وهي ترى أمامها ازدواجية الغرب وتناقضه في تطبيق هذه القيم؟ الشباب اليوم أكثر وعيًا وإدراكًا لهذه التناقضات، مما يخلق جيلًا مشبعًا بالشك والنقد تجاه الخطاب الغربي، بل ودافعًا نحو رفض تلك القيم التي باتت تبدو جوفاء عندما تُستخدم لخدمة النخب العالمية على حساب المستضعفين.
قد نعود هنا إلى مفاهيم هيغل عن "الصراع" و"الجدل"، إذ يدفع هذا الوعي الجديد نحو إعادة النظر في النظام العالمي الحالي، وإيجاد قيم جديدة تُؤسس على العدالة الشاملة وليس على مصلحة القوى. وإذا كان مفهوم العدالة العالمية هو حقًا الهدف الأسمى، فلا بد من تجاوز هذا الخطاب الفارغ، وتبني رؤية صادقة تُحترم فيها حياة الشعوب وكرامتها دون انتقائية أو تمييز.
لعل هذا الأمر يتطلب مراجعة شاملة للسياسات الغربية التي تتعامل مع حقوق الإنسان بانتقائية تخدم أجنداتها. فما يُرتكب في غزة ولبنان هو أكثر من مجرد انتهاكات، إنه اختبار لمدى صدق القيم التي ترفعها القوى الكبرى، وما لم يُدرك العالم أن حقوق الإنسان قيمة لا تتجزأ ولا تتأثر بالمصالح السياسية، ستظل الديمقراطية وحقوق الإنسان مجرد شعارات جوفاء. كما قال هوارد زين: "لا توجد دولة خيّرة بطبيعتها؛ كل الدول تُروج لمصالحها الخاصة"، لكن يمكن للأفراد والأصوات الحرة أن تُحدث تغييراً حقيقيًا في هذا النظام القائم، بدفعه نحو التزام أعمق وأكثر تجردًا بالقيم الإنسانية.