أمجد نجم الزيدي
يعد كتاب "كيف تكتب مثل تشيخوف: نصائح وحوافز من رسائله وأعماله"، الصادر عام 2008، والذي حرره كل من "بييرو برونيللو ولينا لينشيك"، وثيقة أدبيّة وفكرية مهمة تجمع خلاصة التجارب الفنيّة والحياتيّة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، من خلال رسائله وأعماله الأدبيّة.
إذ ينطلق المحرران، في تقديم هذا الكتاب، من دافع كبير إلى سبر أغوار عقليّة تشيخوف الإبداعيّة، واستكشاف آرائه حول عناصر الكتابة السرديّة، بدءاً من الحبكة وتطوير الشخصيات، وصولاً إلى كيفية توجيه الكاتب لعملية الإبداع نفسها.
إذ تمنحنا لينا لينشيك، بفضل ترجمتها للنصوص من الروسية والإيطالية، منظوراً شاملاً لمفاهيم تشيخوف حول السرد، وتحويل أفكاره النظرية بشأن الكتابة إلى إرشادات عملية تخدم الكتاب المبتدئين والمحترفين على حد سواء.
يُقدم لنا كقراء ومهتمين بالكتابات السردية نظرة معمّقة في أسلوب تشيخوف الذي يعده بعض النقاد أنموذجاً للبساطة العميقة، من خلال تناول طريقته وأسلوبه في البناء الدرامي، واستراتيجياته في رسم الشخصيات وتعميق أبعادها الإنسانيّة، فهو وبفضل ما يحتويه من إرشادات وتشجيع للكتاب على إيجاد أصواتهم الخاصة، يمثل إضافةً مهمة لمن يسعى إلى فهم أسرار الكتابة السرديّة، مستفيداً من رؤية أحد أعظم الكتاب الروس وألمعهم في أدب القصة القصيرة.
تُسلط المترجمة لينا لينشيك الضوء، في تقديمها للنسخة الإنجليزية من الكتاب، على التحولات التي طرأت على هذا العمل منذ إصداره الإيطالي الأصلي، والذي كان بمجلدين منفصلين، يحمل الأول عنوان "من دون حبكة ومن دون نهاية"، والثاني "حذاء جيد ومفكرة"، وحتى ظهوره ككتاب موحد باللغة الانجليزية، وهذا الجمع هو محاولة لتقديم رؤية شمولية وكاملة لأسلوب تشيخوف ومتبنياته الفكريّة لغير الناطقين بالإيطالية والروسية، اللغات التي ترجم عنها الكتاب، وذلك، بحسب لينشيك، هي الرغبة في تسهيل الوصول إلى نصائح تشيخوف، كما وردت في رسائله بشكل مباشر، وأيضاً توفير أمثلة واقعيّة من حياته، وخاصة من كتاب مذكراته عن رحلته إلى جزيرة سخالين. إذ يمثل كتاب "جزيرة سخالين" ذروة التجربة الواقعية لدى تشيخوف، والذي اعتمد فيه على أسلوب سردي غير تقليدي يمزج بين الوصف الموضوعي وبين النبرة العاطفيّة النقديّة، حيث تتجلى فيه قدرة الكاتب على بناء مشاهد شديدة الواقعيّة، تساعد الكتاب والقراء على استيعاب ما يطرحه تشيخوف حول ضرورة الانغماس
في الواقع لنقل مشاهد أكثر صدقاً وحيوية.
كما أنَّ دمج تعليقات المحررين بييرو برونيللو ولينا لينشيك في هذا الإصدار، يُعد إضافة لها أهميتها الكبيرة، إذ إن هذه التعليقات تعمل كوسيط فكري بين فكر تشيخوف والقارئ الحديث، والذي يساعد على التفاعل مع النصوص في سياقها التاريخي والاجتماعي، مع التركيز على تفسير وتحليل بعض المصطلحات والأساليب التي قد تبدو غامضة، أما التعليقات الأصلية لتشيخوف، والتي تظهر في القسم الثاني "حذاء جيد ومفكرة"، فتضفي بعداً إضافياً من الأصالة الفكريّة، حيث إنها تقدم رؤية ومنظور الكاتب نفسه عن أعماله الخاصة.
إنَّ هذا الكتاب لا يقتصر على شرح أسلوب تشيخوف وتقنياته فحسب، بل يفتح أمام القارئ باباً للتفاعل مع عالمه الأدبي بطرق متعددة، حيث تصبح الرسائل والمذكرات والتعليقات جزءاً من منظومة متكاملة تسعى لتقديم صورة شاملة حول أسلوب تشيخوف في الكتابة، لذلك يمثل هذا الكتاب دراسة دقيقة في كيفية تحويل تجربة الكاتب الشخصية والفنية إلى أدوات معرفية يستفيد منها الكاتب المبتدئ، من خلال وصف تشيخوف للعمل الأدبي، بأنَّه عملية تفاعليّة بين الكاتب وواقعه، وتحويل التجربة الشخصية إلى أدوات معرفيّة؛ فهو لا يقدم "وصفات" ثابتة للكتابة، وإنما يستعرض مجموعة من التجارب والممارسات التي تهدف إلى تعزيز قدرة الكاتب على استلهام الواقع وتجسيده بأمانة وصدق، ويُقدم أيضا، من خلال تعليقات المحررين، كيف يمكن الاستفادة من رؤى تشيخوف في تقديم نصوص تعبر عن الواقع، وأنَّ الكتابة هي عملية تفاعلية تتطلب الانغماس في الحياة اليوميّة.
تُتيح لنا رسائل أنطون تشيخوف إلى الممثلة "أولغا كنيبر"، والتي تزوجها لاحقا، الاطلاع على جوانب إنسانية من حياته الخاصة، فهي تكشف عن التحديات الشخصية التي واجهها، وتُعبر عن عواطفه ومشاعره، والتي تتجلى في كل إنجازاته الأدبيّة وحياته الخاصة، فمن خلالها، نرى الشخصية الإنسانية بكل أبعادها لتشيخوف، وكيف يتعامل مع الضغوطات النفسيّة والعمليّة التي كان يعيشها ككاتب وطبيب، وما يعانيه من توتر في الجمع بين طموحاته الأدبية والتحديات التي يجابهها، وقد جمعت هذه الرسائل سابقا في كتاب من ترجمة وتحرير "جان بينديتي" بعنوان "عزيزي الكاتب عزيزتي الممثلة- رسائل حب بين انطون تشيخوف وأولغا كنيبر" صدر باللغة الانجليزية عام 1996.
لا تعد الكتابة لتشيخوف مجرد ممارسة فنية أو وسيلة للتسلية، بل تُعَد أداة فعّالة لتغيير الواقع، وفهم تجارب البشر، حيث يسعى لتقديم شخصيات حقيقية تعيش قضايا إنسانية معقدة، من خلال التركيز على اللحظات الصغيرة في حياتها اليومية، والتي يكشف بها كيف يمكن للأدب أن يُحدث تغييرات عميقة في فهمنا للعالم من حولنا.
يُظهر تشيخوف وعبر أسلوبه الفريد في الكتابة، كيف أن الأدب يمكن أن يُسهم في زيادة الوعي الاجتماعي والإنساني، وكيف يمكن للكتابة أن تصبح وسيلة لإدراك التحديات والمعاناة، التي تجعل القارئ يتفاعل بشكل عميق مع النصوص الأدبية، إذ تسلط هذه الرسائل الضوء على الفكرة القائلة بأن الأدب ليس مجرد ترفيه، بل هو أداة مهمة تُساعد الشعوب على استكشاف معاني الحياة وفهم تعقيداتها، ما يُعزز من قيمة الكتابة كوسيلة للتعبير عن الواقع والتأمل في الحياة.
يعزز هذا الكتاب المفهوم الذي يذهب إلى النظر للأدب بوصفه عملية مستمرة من التأمل والتفاعل بين الكاتب وواقعه، أما ميزة هذا الكتاب فإنَّه يتجاوز المعايير الأدبية التقليدية، ويقدم تعريفاً أوسع للفن كوسيلة معرفية، تمكن الكاتب من التعبير عن التجربة الإنسانيّة بطرق
مبتكرة.