كيف يشكل الوعي الهُويَّة الثقافيَّة؟

ثقافة 2024/11/10
...

  بغداد: مآب عامر

يزعم الفيلسوف رينيه ديكارت أن ما يعرفه عن نفسه هو أنه شيء (يشك، ويفهم، ويؤكد، وينكر، ويريد، ويرفض، ويتخيل، ويدرك. وأن الوعي هو الصفة المميزة للإنسان، والعنصر الحاسم في تصوره لمفهوم الشخص).
رأي ديكارت هذا يدفعني للتوقف قليلا عند عبارة نسمعها دوما في حياتنا اليومية  "ليس لديه وعي" نسمعها ربما من باب الانتقاد السلبي، أو للانتقاص من شخص ما قد لا يشبهنا في التفكير أو السلوك.  

لقد شكل الوعي واحداً من الظواهر الغامضة التي تناولها الكثير من المهتمين والفلاسفة بين الوعي الذاتي والوعي المادي وقدموا العديد من وجهات النظر والبحوث والدراسات والنظريات، التي تحاول أن توضح الصورة بشكل أعمق وتشكل فهمنا بدقة، ومنها نظرية "المعلومات المتكاملة"، التي اقترحها عالم الأعصاب الرائد في مجال بحوث  الوعي جوليو تونوني.
وتفترض هذه النظرية بحس المصادر "أن الوعي ينشأ من تكامل المعلومات في الدماغ، حيث تعمل الشبكات المترابطة على توليد تجاربنا الغنية". ووفقاً لهذه النظرية، فإن الوعي "ليس أما كل شيء أو لا شيء"، بل يوجد بدرجات متفاوتة، مما يسمح لمجموعة متنوعة من التجارب أن تشكله.
ولكن كيف يبدو "الوعي" بالنسبة لبعض المثقفين والأدباء، وهل ينظرون بالفعل إليه على أنه "ليس أما كل شيء أو لا شيء"؟

حجم الفقاعة
يرى الناقد د. نصير جابر أن تتردّد مفردة الوعي كثيرا بين المثقفين وغيرهم، فهي وصف دائم لحالات كثيرة، إذ تأتي المفردة بصيغ وإضافات مختلفة: (الواعي- الوعي الزائف- غير واعية.. وعي مركّب). ويقول جابر إن "تأمّل هذه المفردة (الوعي) يجرّنا إلى ماهيتها وتعرفيها، وهل هي تشير إلى شيء محدّد ومركز أم إنها تدور في حيز مفتوح ومشرع على معان  كثيرة".
ويبدو أن الوعي وتعريفه، كما يضيف جابر، يرتبط بالشخص الذي يروم تعرفيه، فهل هو واع لما يفعله أم  لا؟
الوعي كما يراه جابر هو الإحساس والدراية بالمحيط، ومن ثمّ فهمه وتفسيره، والشعور بما فيه من مؤثرات ومحدّدات راهنة وماضية وهواجس مستقبلية .
ويتابع أن "الوعي هو شعورك باللحظة التي تعيشها، وفهمك لكلّ اتجاه منطقي يمكن أن تسلكه لتكون في الضفة الآمنة والإنسانية" .
ويشير د. نصير جابر إلى أن الوعي هو أن تدرك حجم الفقاعة التي تحتويك، لتكون رائياً لما حولك .

التمرد السلبي
ولأن "الوعي" حالة غير مفردة وثابتة، فإنها تشمل حالات مختلفة تظهر للفرد من خلال تجاربه، ويعتقد مؤسس رواق الثقافة والفن في النجف الفنان التشكيلي والمهندس سعد الجد أن "الوعي هو إدراك الوجود من حولنا وتفسيره".
ويقول الجد: خلال فترة وجود الإنسان على الأرض كان هناك حاجة إلى تفسير هذا الكون إلى أربعة أنماط ثقافية اعتمادا على وعيه وهي: "السحر، ظهور الدين، والفلسفة، أما النط الرابع فكان عن الحضارة الحالية".
ويقسم الجد "وعي التمرد" إلى نوعين، وهما: تمرد المثقف، وهذا يعني أن لديه الحجج لإثبات وجهة نظره، فهو من العناصر المهمة التي تسهم في مساندة المجتمع غاية في التقدم.
أما النوع الآخر، بحسب رأيه، فيطلق عليه "التمرد السلبي" وهو من دون حجج ومنطلقات علمية، وبالتالي يؤخر المجتمع.
إن إدراك هذه الأنماط والأنواع  الخاصة بالوعي البشري تتحدى فهمنا البسيط والساذج للواقع. حيث يرى الجد أن "الوعي النمطي"، فهو وعي القطيع ويحصل عليه من دون أي جهد. كما أن هناك الكثير من الأشخاص الذين لديهم وعيهم الخاص أمثال النخب الثقافية والفلاسفة وغيرهم.
تداعياتٌ وتجارب
أما الشاعرة شماء العلي فترى أن الوعي بشكل عام، هو وصول الذات الإنسانية إلى حالة من الفهم والإدراك للحقائق الحياتية والمجتمعية، وحتى السياسية بشكل مستقلّ عن النزعات الخاصة .
أما مقاييس "الوعي" فتختلف من شخص إلى آخر بحسب مستوى الادراك ومستوى الثقافة والمعارف التي اكتسبها فأثرت فيه وفي تشخيصه للأمور.
وتناولت العلي "الوعي المتمرد" وكيف أنه يختلف عن الوعي النمطي كونه مصحوباً بالرفض والرغبة في التغيير، كما تضيف: في حين يكتفي الوعي النمطي بالتشخيص من دون معالجة.
وتؤكد العلي أن "لكل شخص وعيه الخاص بفعل تداعيات تجاربه الخاصة في الحياة".
وتشير شماء العلي إلى أن وعي الشاعر مختلفاً تماما، إذ كان ومازال محكوماً بمقاييس خياله، وتلك الشطحة الجنونية وليدة اللحظة الشاعرة، لذا قيل سمي "الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره".

مديَّات الرؤية
من جهته، يرى الناقد في الأدب الحديث د.علي جواد عبادة أن الوعي مرتبة من إدراك الفرد لثقافته، واظهارها دونما تزييف، وأخرى إدراك للتعدد واحترام له، ومن هاتين المرتبتين تتشكل الهُوية الثقافية للفرد، ويتحقق التفاعل الخلاق، وبهما أيضاً يُقاس الوعي علواً وانخفاضاً، انكفاءً وانفتاحاً، قبولاً ورفضاً.
ويقول د.علي جواد عبادة إن "التوحش وعي في إدراك الفرد لذاته وللآخرين، والتحضر وعي أيضاً في ادراك الفرد لذاته وللآخرين، ولا يُسأل الفرد عن وعيه النمطي، فهو نتاج ضواغط ثقافية شائعة ومبذولة في الفضاء العمومي لتداول الأفكار، بيد أن التمرد في الوعي يضع الفرد مواضع اتهام، لأنه عروجٌ في ملكوت الأسئلة، وسفرٌ في مديات الرؤية، ما لم يجد بيئةً غير التي نحيا بها، تؤمن بالتفرد بوصفه أسلوب حياة، وأسلوبية في قراءتها دونما تخمة في الاجابات وظمأ في السؤال".

خفايا الأمور
في المقابل، يرى الشاعر محمد جلال الصائغ أن مسالة الوعي كبيرة ومعقدة. ويقول إن "الوعي نقمة في هذا الزمن".
ولا يعتقد الصائغ أن للوعي مقياساً.. ويتابع: ربما العزلة هي أحد مظاهر الوعي، فتفضيل الصمت بين جموع الناس العادية عند التواجد بينهم وعدم الدخول في نقاشات بلا جدوى مع بعضهم، قد يدفعني لتشخيصه كنوع من أنواع الوعي.
الصائغ يعتقد أن نظرته تجاه تفسير مفهوم "الوعي" قد تكون قاصرة وبسيطة، ولكنه يرى أن الصمت واحدة من السلوكيات التي تؤشر تزايد الوعي عند الفرد.
ويضيف الصائغ أن "مقياس الوعي بالنسبة لي عدم التصديق والشك، لكن كلما زادت رغبتك بالعزلة وعدم قناعتك بما يحدث من حولك في الواقع، فمعنى هذا أن لديك وعيا، على الرغم من أن لكل فرد منا وعيه الخاص به.
ويتابع أن تكون خارج دائرة القطيع، فمعنى هذا أن لك وعيك الخاص، والذي هو في طور التطور والنمو، كما أن مسألة الرفض وعدم القناعة بسهولة، بما يحدث من حولك من أشياء يُقبل عليها القطيع هي من ضمن المسائل التي توضح مدى إدراكك لخفايا الأمور وتزايد وعيك.
ويشير الصائغ إلى أن الشك والبحث عن الحقيقة بدلاً من الركون نحو السكون في التفكير في مراحل متزايدة من الوعي.
ويرى محمد جلال الصائغ أن الرغبة في وجود اجيال واعية يحتاج إلى نغير أسلوب التلقين المتبع في المدارس، بمعنى أن ندع الطلاب يمارسون فعل التفكير بدلاً من فعل الحفظ فقط.