محمد صابر عبيد
تجوهر النقد الثقافيّ تجوهراً غريباً حول مصطلح "النسق" بوصفه الآليّة الأكثر اشتغالا في فضاء الإجراء النقدي الثقافيّ، وقد وضعه الناقد الدكتور عبد الله الغذاميّ في صلب عنايته النقدية بحيث صار الشعار الأكثر حضوراً في مدونته النقدية، إذ تحول "النسق المضمر" إلى آلة حفرية يصل فيها الغذاميّ إلى الكشف عما هو خفيّ غير بارز في النصوص والظواهر الأدبيّة، بحيث جعل من حداثة أدونيس -مثلا- حداثة رجعيّة بفضل هذا النسق المضمر الكاشف، وتلقّف كثير من النقاد العرب مقولات الغذاميّ واعتمدوا مصطلح "النسق" كي يدللوا بوساطته على انتمائهم إلى فضاء النقد الثقافيّ.
لكنّ أكثرهم -للأسف- لا يستخدم من آليّات النقد الثقافيّ وعُدّته المنهجيّة سوى هذا المصطلح، الذي أصبح في أحيان كثيرة بديلاً للنقد الثقافيّ برمّته حين يُكثِر هؤلاء من تكرار النسق في كتاباتهم بمناسبة وبغير مناسبة.
إنّ كثيراً من هذه الدراسات التي تدّعي الانتماء إلى ميدان النقد الثقافيّ لو جرّدناها من مصطلح "النسق"، واستبدلنا به مصطلح "البُعد" -على سبيل المثال- فإنّها ستتحوّل مباشرة إلى دراسات سوسيولوجيّة محضة، فهي تتعكّز على هذا المصطلح الثقافيّ متوهّمة أنّه الطريق الأمثل والوحيد نحو الانضمام إلى فضاء النقد الثقافيّ، حتّى أنّ بعضهم يتحدّث عن جيل نقديّ جديد هو جيل (النقد الثقافيّ) الذي جاء في أعقاب جيل (النقد البنيويّ)، وهو بلا أدنى شكّ ليس سوى وهم كبير لا أساس له من الصحّة، لأنّ الأمر لا يتعدّى الدوران حول مصطلح "النسق" لا غير، ومن دون أيّ تفعيل إجرائيّ صحيح ودقيق لحراكه الاصطلاحيّ فيما يكتبون.
يعدّ الغذاميّ في هذا السياق عرّاباً للنقد الثقافيّ العربيّ منذ أن أصدر كتابه الشهير "النقد الثقافيّ، قراءة في الأنساق الثقافيّة العربيّة" الصادر عن المركز الثقافيّ العربيّ في بيروت بطبعات عديدة، وما تلاه من كتب أخرى وصولاً إلى أحدث كتبه الموسوم "اللابس المتلبّس: من أوراق أبي الطيب المتنبي" الصادر هذا العام 2024 عن المركز الثقافيّ العربيّ أيضاً، يعمل بجدّ على فرض أنموذجه النقديّ وتعزيز حضوره داخل فضاء النقديّة العربيّة الحديثة، لكنّ كتبه كلّها تتعرّض باستمرار للنقد ضمن مستويات عديدة ضدّ متبنّياته النقديّة أو معها، وهذا أمر طبيعيّ في ظلّ الحراك النقديّ العربيّ المختلف الاتجاهات والمشارب
والتيارات.
ما لفت انتباهنا بقوّة ما قاله الغذاميّ في "فيديو" بعث به إلى مؤتمر أقامته دار الشؤون الثقافيّة في وزارة الثقافة العراقيّة عام 2023 حول الشاعرة الرائدة "نازك الملائكة"، وهو المنشغل بأنموذج نازك في كثيرٍ من كتبه وضمن أكثر من حساسيّة اشتغال، وكان هذا الفيديو مشاركة منه في هذا المؤتمر وإسهاماً في جلساته، وقد كرّر فيه كثيراً ممّا سبق أن ذكره في كتبه حول هذا الموضوع على نحو لا جديد فيه، وفي معرض حديثه عن قصيدة نازك الشهيرة "الخيط المشدود على شجرة السرو" أخطأ في قراءة العنوان أكثر من مرّة، حين استبدل مفردة "الحبل" بدلاً عن مفردة "الخيط"، وهنا وقع الغذاميّ في (شرّ أنساقه)، فلو طبّقنا فعاليّة "النسق المضمَر" على خطأ الغذاميّ غير المقصود هنا لاكتشفنا طبيعة المرجعيّة الذهنيّة التي ينتمي إليها، فمفردة "الحبل" لهذا حضور ذكوريّ هائل في الثقافة العربيّة القديمة لا مجال للإفاضة فيها هنا، ودلالاتها لا تخفى على كلّ من يشغل في حقول الدلالة اللغويّة والمعنى اللغويّ.
إنّ الفرق الشاسع بين لفظة "الحبل" ولفظة "الخيط" هو الفرق الجوهريّ الأساس بين الذكورة والأنوثة، بين العنف القصديّ في "الحبل" والأنثويّة الطاغية الناعمة في "الخيط"، بين الإحالة على خشونة الملمس والصحراء والخيمة وثنائيّة السيّد والعبد؛ والإحالة على ليونة الخيط ودقته وليونته وطرافة ملمسه ورقّته، إذ اشتغل النسق المضمَر هنا لدى الغذاميّ بحيث رفضت ذهنيّته الذكوريّة الصحراويّة -من غير وعي- حساسية لفظة "الخيط" شديدة الأنثويّة، واستبدلت بها النظير الذكوريّ العنفيّ "الحبل"، وهنا ومن أوّل لفظة في عتبة عنوان القصيدة أهدر الغذاميّ دم قصيدة نازك الأنثويّة ودمّر قضيّتها، حيث جرّدها أولاً من طاقتها الأنثويّة وهي الطاقة الأصل ذات القصديّة العالية في القصيدة، فضلاً عن تجريد منهجيّته الثقافيّة من سلاحها الأمضى ألا هو "النسق" حين صار ضحية له في هذه الحكاية/
المفارقة.
تنهض هذه المفارقة على صحة داخليّة عميقة رافضة لخطاب الأنثى ولغة الأنثى وحساسيّة الأنثى، على الرغم من ادّعاء الدفاع عن الأنثى بأنساقها وقضاياها كافّة؛ إذ إنّ مجرّد وجود "الحبل" في عتبة عنوان القصيدة -كما قرأها الغذاميّ خطأً- يكفي لمحو أيّ رؤية أنثويّة اشتغلت عليها نازك في قصيدتها، ولولا أن هذا الخطأ تكرّر على لسان الغذاميّ وهو يتحدّث عن القصيدة لكان من الممكن عدّها "زلّة لسان"، لكنّ تكرارها أكثر من مرّة يؤكّد ما ذهبنا إليه في اشتغال النسق الخفيّ المضمَر على هذا الخلل النسقيّ في ذهنيّته، حيث أفرزت المقابِل الضديّ الكامل "الحبل" بدلاً من "الخيط" في مفارقة نسقيّة يستحيل دحضها.
فكيف يمكن بإزاء ذلك الثقة بأطروحات النقد الثقافيّ لزعيم هذا النقد وعرّابه وحامل لوائه على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، ممّا لا يمكن معاينته بوصفه خطأً عابراً، وهذه مسألة ينبغي معاينتها بجديّة وأمانة وصدق من أجل مستقبل حقيقيّ للنقديّة العربيّة الحديثة، في تعاملها مع المناهج النقديّة المتعددة بمختلف اتجاهاتها ومدارسها وتياراتها، إنّه سؤال يقتضي إعادة النظر في أطروحة الغذاميّ وفحصها بدلالة "النسق المضمَر" الذي تبنّاه، من أجل الوصول إلى رؤية شاملة لخطابه النقديّ وتقويم منجزه على هذا
الأساس.