حازم رعد
بعيداً عن الجدل الحاصل على الجغرافيا الأولى لنشأة الفلسفة الذي أدى إلى اشتداد النزاع بين أهل الشرق القديم واليونان القديمة، الأمر الذي حدانا أن نكون أكثر إفادة وموضوعية وذلك بالقول إن موطن الفلسفة الأصلي وجمهوريتها الكبرى هو "العقل الإنساني" الذي يتوزّع بالتساوي بين الناس جميعاً بلا تفاوت "فهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس" لأن موطن التفكير ومصدر المعرفة الأول والأداة الناجعة للإدراك وفهم الأشياء وموئل القدرة على النقد والتقويم والتقييم هو عقل الإنسان بلا خلاف. وبعيداً عن رؤى "ايزوقراط، ديوجين اللايرسي، هيغل، وراسل" وكذلك بعيداً عمّا يراه أفلاطون في أنَّ كلمة "صوفيا" ليس من أصل يوناني، وأن طاليس من بلاد الفينيق وتلقى علومه في مصر والعراق من قبل أن يعلن أن الماء أصل الأشياء، وأن لا شيء من لا شيء هذا القانون الأثير في الفلسفة قديمها وحديثها. وبعيداً عن ذلك كله، فإنَّ للفلسفة أدواراً عديدة مثلت مراحل نشأتها ونضج وعيها بالكون والإنسان والعالم مع ملاحظة (أن الخطوط الفاصلة في تاريخ الفلسفة ليست قريبة ملزمة ذلك. لأن الانتقال من عصر إلى عصر يتم بطريقة تدريجيّة) وهذا يعني أن تقسيم تلك الأدوار قد يخضع أساساً لوجهات نظر الفلاسفة، وقد يعتمد أيضاً على الموضوعات التي تتناولها فلسفة ما، وفي حقبة زمنية معينة، وغير ذلك من التصورات في هذا الشأن، ولا حسم نهائياً في هذا الخصوص.
ولكن نفهم بشكل إجمالي أن المؤرخين سمّوا الفلسفة إلى ثلاث أدوار كبيرة، وهي: دور التفكير الطبيعي وامتد لنحو 150 عاماً من القرن السادس حتى أواسط الخامس قبل الميلاد، ويغلب على هذا الدور البحث في ظواهر الطبيعة وأصل العالم، وهو ما يعرف بالفلسفة ما قبل سقراط.
أما الثاني، فهو دور التفكير الإنساني، وهو أيضاً يمتد لنحو 150 عاماً من أواسط الخامس إلى أواخر الرابع قبل الميلاد، وغلبت على هذا الدور النزعة الإنسانيّة، ونشأت فيه النظم والمذاهب الفلسفيّة وعرفت فيه حقائق الوجود، وهذا الدور أعظم أدوار الفلسفة، ففيه "سقراط، أفلاطون، وأرسطو طاليس". بينما أمتدَّ الدور الثالث وهو الهلنستي الروماني، لتسعة قرون، وتحديداً من أواخر القرن الرابع قبل الميلاد حتى أواسط السابع الميلادي، وهو أقل الأدوار إبداعاً وإن كثر فيه الانتاج التلفيقي والاجترار والشروحات على المتقدمين، فقد نشأت في هذا الدور مراكز فلسفيّة خارج اليونان، وأشهرها الاسكندرية، كما أن لهذا الدور حقبتين رئيسيتين هما: الاولى وهي قبل مجيء النصرانيّة، حيث غلب عليها بحث الأخلاق والسعادة وغاية الحياة القصوى على المعمورة، أما الثانية فهي حقبة مجيء النصرانيّة، وتم البحث فيها عن التوفيق بين الدين والفلسفة وقضايا أخلاقيّة وسياسيّة وغير ذلك. وفي الأدوار الثلاثة يتخلل كلّ دور منها، ثلاث مراحل تشكل تاريخ ذلك الدور، وهي: مرحلة النشأة، والتي تتشكل فيها اللبنات الأولى التأسيسيّة وتحوي هذه المرحلة بداية الاشتغال على التكوين والانطلاقة، والثانية هي مرحلة النضج والتي يكون فيها الدور أو الحقبة التاريخيّة في أوج ازدهارها وتألقها من خلال وضوح المذهب أو الاتجاه الفلسفي، وتعد كل مرحلة نضج هي العصر الذهبي للدور أو الحقبة في ذلك التاريخ والثالثة هي مرحلة الأفول. وتبدأ هذه الأخيرة بالانحطاط شيئاً فشيئاً لحين انتهاء المرحلة عندما توالت مطرقة النقد على بنيان الاتجاه الفلسفي والنظريات والموضوعات التي يتشكل منها.
وعلى ضفاف نهايات الدور الثالث للفلسفة اليونانية نشأة فلسفة العصر الوسيط والتي هي عبارة عن خليط من القضايا الدينية والأفكار الفلسفيّة اليونانيّة. وقد ترشّحت بداية أفكارها منذ انتقال الفلسفة بعد إعلان العداء لها من قبل الأمبراطور الروماني جستنيان وإغلاقه لمراكز التفكير الفلسفي واضطهاد المشتغلين بهذا الحقل المعرفي. فانتقلت الفلسفة إلى الاسكندرية وسواها. وكانت هذه المدارس أو المراكز المعرفيّة تعتني باللاهوت بالدرجة الأساس محاولة دعم تصوراتها بالأدلة والمناهج الفلسفيّة المأخوذة بخاصة عن فلسفات "افلاطون وأرسطو طاليس" وغيرهم.
وفلسفة العصر الوسيط تنقسم إلى شعبتين هي "الفلسفة المسيحية والفلسفة الإسلامية" والمسيحية أقدم تاريخياً من الأخرى، بينما الفلسفة الإسلامية أكثر ازدهاراً وتطوراً وتمدداً، فقد تمكن الفلاسفة المسلمون أن ينقلوا ويترجموا كتابات اليونان ويضيفوا عليها بالشروحات والنقد والتصويب، فأصبحت أكثر تطوراً وزخماً معرفياً.
استمرت الفلسفة الإسلامية من دون انقطاع، كما يحاول أن يشيع بعض الباحثين للقول بأفولها مع ابن رشد، لكن الواقع أنّها مستمرة في الشرق الإسلامي، فهناك فلاسفة أفذاذ أخذوا على عاتقهم الاهتمام بمشغل الفلسفة من النظر في العالم وطرق العيش واللاهوت، لعل أبرزهم "المير داماد، والملا صدرا الشيرازي" وسواهم. كما وكانت فترة هؤلاء مزامنة لمرحلة العصر الفلسفي الحديث في الجانب الغربي من العالم، حتى أن الملا صدرا قد زامن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. هذه بشكل عام أداور الفلسفة اليونانيّة وما علق بها من اتجاهات ومذاهب فلسفيّة وصولاً إلى الفلسفة الحديثة وثم المعاصرة، وفي كل دورة تاريخيّة من تلك الأدوار للفلسفة توجد مراحل ثلاث "التمهيد والنشأة"، ثمَّ تليها مرحلة "النضج والنمو" وبعد ذلك تأتي مرحلة "النقد والمراجعات التصحيحيَّة"، وهذه المراحل تلاحظ في كل حقبة تاريخيَّة للفلسفة.