ميثم الخزرجي
إن المسبب الرئيس للتغيرات الثقافية الكبيرة التي تصاحب إنسان هذا العالم هو ما ينتج عن تعريفات جديدة للغة الآلة مع حيازة الجانب المعرفي واللاهوتي في تعيين ذهنية المجتمعات بحسب قوة التأثير والواعز النفسي ومدى استيعابه لها، ولعلي أجد أن التطور في تكنولوجيا المعلومات الذي شهده العالم في هذا الأوان أشد تأثيراً كونه عاملاً مساعداً على افتضاح الأنساق المتوارية والكشف عن محتواها بفعل التقانات الإلكترونية التي ارتبط الفرد بها ارتباطاً وثيقاً لتكوّن قدرته على مدى فهم أسئلة الحياة
وهنا علينا أن نسأل سؤالاً مهماً حيال هذا الزمن التكنولوجي وقد ينضج هذا السؤال في قادم الأيام جرَّاء التقدم العلمي المستمر، ما هي النتائج التي ستظهر فيما بعد في حال لو أعلن عن جاهزية الروبوت وتهيأت غايته على استعداده في تلبية أغلب الأعمال المهنية التي يقوم بها الجنس البشري؟ كم سيعيش الإنسان على هذا الحال؟ وما هي طبيعة التعامل الأخلاقي والقيمي بالنسبة له حيال هذا الكائن المادي الذي يشغل حيزاً واضحاً فضلاً عن امتلاكه خصائص مهنية عيانية غير جوهرية تُدرك عبر إسداء فائدة معينة؟ كيف ستكون مقدرة الكائن البشري الذهنية على استجابته لسؤال الواقع في حال تعرضه لأي عقبه؟ وما هو الشعور الجواني الذي يبديه إزاء هذا الصراع الأخلاقي؟ وكيف ستكون المواجهة فيما بعد؟ ومن الذي ينتصر؟ وما هي سجيَّة لغة الحياة المتداولة وقتئذ؟ وكيف ستكون دلالتها؟ هل أن الكائن التقني الذي جاء خلاصة الجهد البرمجي يصاب بالإنهاك والتعب أم أنه يعمل عبر موجّه أو بطارية تتصل بمنظومة إلكترونية لا تعاني من الملل والاجهاد؟ إذا سلمنا بإجراء تحديث له من طريق شيفرة مقاومة للخطر البيولوجي الذي يتعرض له الإنسان الطبيعي أو أن يستبدل جزء من أجزائه المادية لو حصل تصدّع في بعض منها، كيف ستكون قابليته العملية في ماهية تحجيم العقبات ومحو صورتها؟ وما هو الهاجس النسقي الذي يراود الجنس البشري حيال هذا الابتكار الذي اشترك معه وصار يقاسمه مهام الحياة؟ هل ما زالت المتبنَّيات الفلسفية حاضرة في كنهه كونه أثمن رأس مال كما يدعي ماركس أو هو الرجل السوبرمان أو الفوقي الذي يدير شأنه بنفسه كما ذكر نيتشه؟ ما هي الصورة الحقيقية التي يظهر بها الإنسان وقد وجد من يُسهم معه في بناء العالم؟ هل سيكون شعوره مستقراً أم أنه منزوع القرار والرؤية بسبب تجرُّده من قواه المعرفية وعدم تصنيف موقفه الفكري والاجتماعي بحسب ما يريد؟ هل جاء الروبوت بوصفه عاملاً مساعداً لحمّى الحياة ومشاغلها الكبيرة أم أن مبتكريه أرادوا له أن يحجز له مقعداً بشرياً على أرض الواقع من الصعب إبادته بل أنه سيزداد عدده في قادم الأيام بحسب أراء الشركات المنتجة والمعنية في الشأن؟
حقيقة الأمر، أن الابتكارات التكنولوجية المستحدثة التي انغمست في التكوين الثقافي للإنسان المعاصر غيّرت من طباعه وأضفت اختلافاً واضحاً على طريقة تعامله مع الموجودات، ولعلي أجد أن الرؤية التي يدَّخرها وأعني بها الإنسان حيال إعلان عصر الروبوت هي رؤية تحدّ من اعتبارية وجوده وأن كان هو لا يدرك هذه الحقيقة بل لا يستطيع أن يضفر بها، أن الاستراتيجية التي عملت عليها الشركات المصنعة للروبوت هي إعطاء صورة مسبقة للتبشير بمزايا هذا الاختراع لتعلن عنه مانحة للمجتمعات البشرية سماته قبل أن يبدأ بمزاولة عمله، فلو أجرينا مسحاً استقرائياً عن الطبيعة المعنية للكائن البرمجي الذي يحلُّ محلَّ البشري الإنساني لنتعرف على نسبة كبيرة من الآراء التي تعضّد هذا الدور في سبيل التسهيلات التي يبديها، وأنا معهم في ذلك بنسب متفاوتة تخضع للكيفية التي عن طريقها يتدخل في تقديم الأعمال وتيسير مهامها، لكن هذه من ناحية عامة وليست من منحى قيمي واعتباري، كوننا نعرف أن خصيصة الآلة لا تحمل المعيار الأخلاقي بل هي تعبير حسابي رياضياتي لا تدرك الشعور والإحساس الذي يعنى بالكائن البشري، وفي حال آمنّا جدلاً بأن توفر الروبوت بات أمراً بسيطاً من قبل الشركات المنتجة التي تتمتع برؤوس أموال أو المعامل ذات السلع التي يستهلكها المواطن وأجيز أن يستخدموا أياد عاملة برمجية، كيف ستكون فاعلية الإنتاج فيما بعد؟ المسألة واضحة ولا تحتاج إلى تدبير، فالطاقم التقني المصنّع لا يعاني من حساسية في الجانب العملي والمهني لكن يبدو لي أن السؤال الأكثر رعباً، كيف سيكون مصير الإنسان حيال هذ الواقع؟ هل يستشعر وجوده أو بمقدوره أن يستحصل على برهة عابرة للتأمل والتفكير؟ ومما لا شك فيه أجد أن الحياة القادمة ملتبسة باستطاعتنا أن ندركها على أرض الواقع لكنها بمصاف أفلام الخيال العلمي التي لا تتقبلها الأذهان بسهولة، حياة غير متوقعه لكنها فعلية، وهنا تكون عملية خلق قيمة ثالثة لكائن بشري واهم في التصريح عن مقدراته الجوهرية، فهو ما بين أن يصرَّ على إضاءة بعض من سماته الأخلاقية التي من المفترض أن يتمتع بها الكائن البشري، وقد أشير إلى مفهوم (بعض) كون أن كثيراً منها قد تراجعت فاعليتها بفعل السياق الدخيل الذي أمسك بإنسان العالم الجديد، وبين أن يجد له لغة دالَّة غير اللغة العلمية تمسك في ماهية التعامل مع الكائن البرمجي.
واقعاً، أن التعريف بمهمة الروبوت هو ما نجده مدوناً في الكود والشيفرة التي عن طريقها نستدل على حقيقة عمله ومنجزه الذي يقوم به، لكن هل ثمة معايير ثقافية أو سمات نسقية تندرج في هذه الشيفرة؟ أو هل هناك بعض من المحاذير التي يتأثر بها، كأن يكون العوامل البيئية والتغيرات المناخية أو التعرض لمواقف أخلاقية حيال العمل أو عبر ما يصادفه من مشكلات الحياة الكثيرة مثل مراكز التسوق أو السير في أماكن الترفيه، أم تتضح كينونته عن طريق الأثر الذي يقدمه في العمل ليرتكن بعدها؟ وهل من الضروري أن ندوّن في نطاق الشيفرة اعتبارات إنسانية لتكون من ضمن خصائصه التي تؤهله للتعاطي مع مجريات الواقع؟
هذه الاستفهامات لا تشي بالضرورة بانعكاس مفاهيمي من لدن الإنسان، وتحديداً عند الشعوب التي ما زالت مستوردة للمصطلح المعرفي ولم تتجاوز العتبات الأولى للسؤال الجدلي بل لم تتعدَ استقراءه الدائر على حياة الفرد، كونها تعتاش على سياقات رجعية تؤثر في نزوعها المعرفي نحو السؤال الإشكالي، وهذا النكوص جاء عبر سلسلة من الصراعات الغيبية التي أنهكت قواه الفكرية وجعلته ممتثلاً للماضي، أن التراجع الفكري انعكس انعكاساً سلبياً على طريقة استيعاب الكائن البشري للقادم التكنولوجي جاعلاً منه كائناً مؤمناً بقدرة لا يمتلك العدة المؤهلة للتعيين والاستقصاء والتحدي جرَّاء هذه المخاضات المؤثرة في حراكه في استجلاب الراهن بعدم التوقف عنده ساعياً إلى أن يبرهن حقيقة وجوده في هذا العالم.