عادل الصويري
للقلق لغته التعبيرية الخاصة، فهي المعادل الموضوعي للصدمة الوجودية. لغة لها نسقها الخاص، وإيقاعها المختلف. وهذا ما يجعل المعنيين بكتابة القلق، يكتبون من الأماكن المغايرة التي تحرض على الغواية، وتستفز الحس، وتفك شيفرات الألغاز والرموز. وعبر هذه اللغة؛ يستطيع الكاتب تحديد مكانه من محنته.
لغة القلق تُخرج الفعلَ القرائيَّ من حَيِّزِهِ التفسيريِّ إلى فضاءات التأويل بعد “صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله” بحسب الجرجاني. هذه الفضاءات تردم أي هوة للمعنى داخل النص. بل يكون التأويلُ ملكاً للمُؤوِّل الذي يختلف في نظرته للنص عن نظرة مؤوِّل ثانٍ؛ وذلك لتباين المرجعيات الثقافية والمعرفية والنفسية بين قارئٍ وآخر. فالقلق المكتوب يخلق توتراً غريباً، يُحيلُ إلى تجانس المتناقضات، والانفصال بين المتجانسات، ورؤية اللامحسوس مصاغاً من المحسوس، حيث الأشياء تُسيلُ اختفاءها في الصورة الظاهرة.
القلق الحديث فانتازيا تُقدَّم على أطباق غرائبية، توضع على مائدة طويلة، يُدعى لها القادرون على كتابةِ الزمنِ المعكوس، الممسكون بمهارة استثنائية بخيال المتلقي، وأخذه إلى مناطق الاستفهام والتأمل، وجعله يعتقد بالشيء ونقيضه في ذات اللحظة.
المبدع القلق، هو الذي يعبر بخفَّةٍ المسافات المتصحرة، متسلحاً بلذَّة الكشف، واقتحام المنعطفات والتعرجات؛ للوصول إلى غاية اللذة. هو في نزهةٍ لا تتحقق ولا تتكامل إلاّ باللغة والمشاكسة، واقتراح فضاءات أخرى للدهشة، مفتوحة على كل شيء. تهدم وتبني وبالعكس. فضاءات ممسوسة بالتجريب والمغايرة، غير معنية بشكلٍ أو جنس، بل تعمل على إيجاد نقطة تقارب تصل إلى الاتحاد بين أجناس الكتابة. ومثل هذا التوجه يحتاج إلى مبدع مغامر يطوِّعُ كلَّ شيء لتصدير رؤيته الخاصة. يشتبك مع الشعر تارة، ومع السرد تارة أخرى. وفي الاشتباكين يطرح غواية التعدد الموضوعي؛ لتكون وحدة الموضوع هباءً في عالمه القلق، الموغل في التفاصيل والتشظي؛ فيكونُ هذا المغامرُ مجموع كل الثنائيات والتضادات.
المغامرة هنا تشبه إلى حد ما قول إخوان الصفا في إحدى رسائلهم بأنَّ الإنسان “جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال. وهكذا أكثر أمور الإنسان، وتصرّف أحواله مثنوية متضادة، كالحياة والممات، والنوم واليقظة، والعلم والجهالة، والتذكر والغفلة، والعقل والحماقة، والمرض والصحة، والفجور والعفّة، والبُخل والسخاء، والجبن والشجاعة، واللذة والألم. وهو متردد بين الصداقة والعداوة، والفقر والغنى، والصدق والكذب، والصواب والخطأ، والخير والشر، والقبح والحُسن، وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادة المتباينة التي تظهر من الإنسان الذي هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية”.
المغامرة إذن لها جمال يتمرد على السائد الأسلوبي، وينحرف انحرافاً لذيذاً عن كلِّ الطرق التي سلكها السابقون، معبِّدةً طرقَها الجديدة والخاصة، والتي لا تريد أن يسير عليها غير النار المندلعةِ بالكلامِ، والتي تأكلُ المنطقَ المُتَوَهَّمَ بلذَّةٍ استثنائية. يجذِبُ لَهَبُها الشاعرَ والقارئَ معاً، ينقُلُهم من هنا إلى هناك، وَيُعيدُهم من هناك إلى هنا، وهم مستمتعون بهذا الجسر التشعيريِّ الساحر، والذي يعبرونه بثمالة فريدة.
مغامرة تسكن صورة الواقع، ثم تلتقطها بفوتوغراف مليء بالخيالات المنتمية للإنسان والحياة بحميمية هائلة، تُشكِّلُ العوالمَ المرئيَّةَ والمحسوسةَ، والتي بدورها تُهَيِّءُ للتأمُّلِ البعيد عن الجهوزية المتوارثة، والقريب من الكشف عن كلِّ ما هو ناءٍ ومستغلق.
ومن الاتفاق والاختلاف في ذات اللحظة القلقة، تتشكل عناصر الدهشة داخل النص الذي يقدم أكثر من حياة، وتجعل المتلقي سابحاً بين المرئي واللامرئي، والمتواري من المعنى والواضح منه، حيث التجاور بين الفكر والخيال كفيل بإضاءة ما سكتت عنه الفلسفة، وقادر على الانفتاح على مديات تكشف المخفيَّ من الوجود، لأنهما معاً يعملان على غاية واحدة للوصول إلى حقيقة الوجود بحسب مارتن هايدغر.
ومن المهم أن نسأل: كم هي نسبة القلق المدهش في كتابات اليوم، بعد أن أتاحتها مواقع التواصل، وروَجت لها المؤسسات والنقابات المصابة بإسهال الفعاليات، ودور النشر التجارية الربحية، ومعارض الكتاب التي تلعب دور الجندي المجهول للدولة وسياستها؟
ليس السؤال بالصعب، وبالتالي فإن الإجابة عنه ليست صعبة، فالأكيد أنَّ النسبة متدنّية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعويل على الكتابات الصادرة عن المسميّات المذكورة؛ لأنها كتابات مؤقتة لتغطية نشاطات مؤقتة لا يبقى منها إلا قشور اللقاءات والسهرات والصور التذكارية، أو مجموع ما يحصل عليه منشور ما من اللايكات والتعليقات، وكل هذا (جدولٌ لا ماء فيه). بالمقابل تتطلب الدهشة قلقاً يُذَوِّبُ الـ أنا في الكل، أو الكلَّ في الـ أنا؛ بفعل إدامة العلاقة الحميمة مع اللغة، والسيطرة على الخيال حين يكون على صورة الوحش وصورة الوردة.