كاظم لفتة جبر
يعدُّ الجمال مفهوماً نسبياً خاضع للمتغيرات الداخلية والخارجية ، كون أن تكوين هيئة المتذوُّق متماهية بين النفسي العقلي والجسدي المادي . فكل تأثير خارجي او داخلي موجَّه إلى هذا المتذوِّق يعيد تكوين نظرته إلى الموضوع الجمالي ، فما كان جميلاً قد يصبح قبيحاً ، وما كان قبيحاً قد يصبح جميلاً ، واذا كان كوميدياً قد يكون تراجيدياً للشخص ، وإذا كان تراجيدياً قد يكون كوميدياً . فنوعية المؤثر هي التي تحدد نوعية الجميل ودلالاته الآنية عند الفرد .
نوعية التأثيرات تُحدد من قبل الفرد المتذوق الذي خاض التجربة الجمالية سواء كانت تعبر عن الراحة أو الانزعاج عنده، أما معنى الموضوع الجمالي بذاته بعيداً عن الشعور الإنساني فهو ثابت غير متغير، لأنه غير خاضع للمعنى الذاتي للأفراد.
فلكل فرد معنى وأسلوب جمالي خاص به، يتحدد من خلال الأسرة والمجتمع والمعرفة، لذلك فالجمال معنى ثابت إذا نظرنا له من جانب ديني إلهي، أما فهم الجمال بين البشر فهو نسبي لأنه متفاوت، وخاضع للحاجات والرغبات، وقد يتم استغلاله من قبل الإيديولوجيات والشركات والدول.
وهنا السؤال يمكن أن يكون، كيف يمكن تشكيل هوية جمالية للمجتمعات ؟
الهوية الجمالية ومعناها ذوق المجتمع الجمالي أو المبادئ التي وضعها المجتمع للجميل، والهوية تعني أن يشبه الشيء نفسه، وهي التي يمكن معرفتها من خلال الدوافع التي يسعى لها الفرد المتذوق، أو المجتمع بشكل عام، فالهوية الجمالية للمجتمعات هي أن تكون شبيهاً لدوافعهم ورغباتهم في تكوين فهم حضاري أو متدنٍّ للجمال.
فالمعنى الجمالي مرتبط بالهوية الجمالية، وهذه الهوية بدورها نابعة من تصور المجتمع للأشياء، وفق محددات دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية حضارية، أو أيديولوجيا سياسية، بمعنى تعتمد معرفة هوية المجتمع على سياق معين يتبناه المجتمع من أعراف وعادات وتقاليد، أو مفروضة عليه مثل القوانين الوضعية الموضوعة من قبل الدولة، أو مقرر به من قبل أيديولوجيات عالمية.
فإن فهم الجمال كما يراه (ولتر ستيس )عملية معرفية في طابعها،و هي ليست انفعالاً، ولا فعلاً من أفعال الإرادة. فالفنان الخلاق عندما ينحت الرخام مثلاً، فإنه يقوم بفعل من أفعال الإرادة، غير أن الفهم الخالص للجمال هو عملية إدراك واعٍ وليس فعلاً من أفعال الإرادة، فهو ليس مجرد انفعال يمكن أن يتبدد، وانما هي واضحة.
وكل انفعال ينشأ عند تأمل الجميل، وهو جزء مهم من ردّة فعل روحي شامل، والانفعال مصاحب فقط وليس عنصراً مكوناً في عملية الفهم، فليس الشيء جميلاً لأننا تأثرنا به، بل على العكس تأثرنا به لأنه جميل. فإدراك الجمال سابق ومستقل عن الانفعال الذي ينشأ عنه.
والتجربة الجمالية كثيراً ما توصف بأنها شعور أو مشاعر ويعتقد ستيس أنه وصف صحيح، لكنه ليس حكماً، بل من أحكام العقل يصدر بناء على مبادئ. وإنما هي عملية مباشرة، غير أن الشعور ليس انفعالاً،بهذا المعنى فعل معرفي.
لذا يمكن القول إن المبادئ هي التي تُحدد هوية الأفراد والمجتمعات الجمالية، غير أن الانفعال هو انسلاخ الأفراد عن الهوية وفقاً لرغبة في المعرفة أو حاجات نفسية غريزية. ومع وجود التواصل والتمازج الثقافي بين شعوب العالم عبر المنصات الرقمية، نجد تشتُّت للهويات الجمالية وسيادة الجمال الانفعالي الغريزي القائم على التفاعل والإعجاب والرفض.
فالانفعال غير المعرفة التي تتضمن تأملاً و حكماً، بل يقوم الانفعال على المتعة واللذة، الحكم عقلي موضوعي واعٍ خاضع لمنهج ومعايير ومبادئ، غير أن الانفعال خيالي قائم على اللاوعي واللذة والغريزة.
فالانفعال مغاير للموضوع الجمالي، غير أنه جزء مهم من معرفة ذوات الناس وما يختلج في أنفسهم من أمراض ودوافع سواء كانت خيرة أو شريرة، فالجمال هو المحدد الثقافي لفهم المجتمعات،وتمظهر تقدمها في كل المجالات.
وعليه يجب التفريق بين الجمال والانفعال الآني الوقتي، وبين المعرفة الجمالية والفنية، لأن الأول من سمات الجمهور العام، أما الثاني فهو من مميزات النخبة من أكاديميين وفنانين ونقاد والمجتمع الجمالي