د. سمير الخليل
يظل السؤال مفتوحاً بين التاريخ والرواية حتّى يتحوّل التاريخ إلى رواية، وتتحول الرواية إلى تاريخ ويبقى التعالق قائماً بينهما في السعي والبحث عن الحقيقة وتوثيق الحقيقة والقدرة على تأويلها، ويقوم الراوي بسدّ الفجوات التي تركها المؤرخ بمتخيل سردي، ومن حيث التجنيس ينبغي التمييز بين نمطين من التعالق بين التاريخ والاستلهام السردي، فهناك الرواية التاريخية المحض، وهناك توظيف التاريخ في الرواية، وهذا الاستهلال يمثّل تمهيداً وضرورة لتناول رواية "وجوه حجر النرد" لحسن كريم عاتي، وهو يتوغل في توظيف وقائع التاريخ على وفق اشتغال تجريبي جديد ورؤية تمزج بين الحقيقة التاريخية والمنحى التأويلي الذي يكمن فيها.
ولعلّ من أبرز توجهات هذا العمل الروائي ارتكازه على تعدّد مستويات الأداء واستحضار الوقائع وتأطير الاشتغال بالأبعاد والظواهر والعناصر السردية، وتمخّض عن السعي المعرفي والفكري توجّه في استخلاص النتائج وإعادة القراءة وبما أفضى إلى خلق البنية الاسقاطية والمقارنة والمماهاة بين مختلف العصور والمراحل، وربط الأحداث لكي نكتشف البعد الإنساني والبعد التطوّري في التاريخ، وما ينتج عن ذلك من اسئلة: هل التاريخ تكراري أم دوري؟ أي هل هو مسار خطّي أم أنّه يتكرر بحسب كارل ماركس في المرّة الأولى على شكل تراجيديا وفي المرة الثانية على شكل كوميديا هازلة، وما يصنع التاريخ؟ وما الذي يبقى منه؟
هذه التساؤلات حتماً لها معطيات وعوامل في هذه الرواية التي لم تقع في غواية السرد التاريخي المحض بل استلهمت تفاصيله من خلال فرضية بؤرة المكان بوصفه نصّاً تاريخياً متمثلاً بمدينة بغداد، ولذا نجد استراتيجية، وتجلّيات البعد المكاني تتحوّل إلى نوع من السرد التاريخي القائم على تأسيس الذات والهوية والافضاء الفكري، ويمكن القول إنَّ البطل الحقيقي والمحوري في هذه الرواية هو المكان متمثّلاً بمدينة بغداد، فهي الذاكرة والثيمة والاستشراف، وهي تستدعي حكّامها وأمراءها وحلفاءَها وملوكها على شكل تنويعات لاحتلال السلطة واختلالها.
يمثل عنوان الرواية بوصفه النص الموازي، وعتبة الاستهلال مرتكزاً دلالياً للكشف عن قصديّة وأسرار هذا التوّغل، فهو يحمل طاقة سيميائية ايحائية لوجوه حجر النرد الستّة، وإنّ السلطة ما هي إلاّ لعبة نرد، وما التاريخ سوى تقلّبات هذا الحجر على وجوه متعدّدة ومختلفة، لكنّ جوهر التسلّط يبقى واحداً متناسخاً متناسلاً متوالداً، فالعنوان يشير إلى حركية هذا الخداع المتوالد والممتدّ عبر العصور سواء أكانت السلطة من تدبير داخلي أم أنها صنيعة الغزو والاحتلال الخارجي، ولا نجد فرقاً في جوهر التسلّط وطقوسه الوحشية والبراغماتية فلا فرق بين الاستحمار (الداخلي) وبين الاستعمار الخارجي سواء أكان الأوَّل يأتي من صنع الداخل أم يأتي الآخر من الخارج كما يصف ذلك علي شريعتي.
يبقى التاريخ بيد الراسخين في القوّة ويكتبه المنتصرون والمتسلّطون، والمنتصرون مفهوم نسبي، فمن هو المنتصر الحقيقي ومن هو الخاسر في لعبة نرد تعتمد الموت والعبث والعدمية والسير باتجاه المجهول، وهذا هو المقترح المعرفي والرهان على الرواية بوصفها المؤشّر الكاشف عن المسكوت عنه وكسر خطّية وتابويّة المنطق التاريخي واستبداله بمنطق القراءة التأويلية، فكل اقتراب من الحقيقة التاريخية هو سؤال مفتوح يفضي إلى القراءة والفهم الجديد وإعادة استخلاص ما جرى من وجهة نظر مغايرة بعيدة عن لعبة النرد، ورمي الأقدار وتعدّد وجوه الاستبداد والهيمنة، والنرد واحد، ويمكن استلهام فكرة ما أفضى به الروائي المكسيكي كارلوس فوينس من مقولته الشهيرة ومفادها: "إنَّ المؤرخين الحقيقيين هم الروائيون" كون الرواية لا تدخل في لعبة النرد المقيتة بل هي لعبة الاستشراف ووعي الذات والكشف عن جوهر الحقيقة من وجهة نظر الفكر والتأمّل والكشف من خارج اللّعبة ومقامرات النرد السلطوي.
ولعلَّ عتبة الاستهلال التي وصفها الروائي تنطوي على فكرة السلطة ومغامرة الهيمنة واقدار المفارقة الدامية والمضحكة التي تنطوي عليها، لا سيما أنها عبارات نطق بها البهلول بوصفه العقل الساخر من سخرية الأقدار، وإنّ الموت هو النهاية مهما استبدت لعبة التسلّط. ولذا فإن هذه العتبة تمثّل البؤرة التي تمهّد وتنطوي على كلّ الأبعاد الأفقيّة والعمودية للنص، وتختزل درامية الأحداث وتؤسس لمنطلق التسلّط والمزالق التي تنتظره، فهي شفرة التأويل والإيحاء والاستشراف وتتعاضد على مستوى البنية السيميائية مع دلالة العنوان للمزج بين حركات وتقلّبات النرد وبين سخريّة الأقدار، ومثول الحقيقة المطلقة القائمة على الزوال الكلّي والمطلق ولا يبقى من الممالك سوى الأخبار والسيرة والروايات والعظة إذا وجد من يبحث عنها لقراءة الذي حدث والذي سيحدث حتماً تحت سطوة حجر النرد ورقعته الدامية وعلى وجوهه الستة.