هُرمز رسَّام : العراقيّ الذي اكتشف ملحمة گلگامش
شاكر الغزي
يعزى فضل اكتشاف ملحمة گلگامش إلى ثلاثة: الرحالة الإنگليزي أوستن هنري لايارد. ومساعده المنقب العراقيّ هرمز رسام. وموظف المتحف البريطاني جورج سميث.
يقول العلامة طه باقر في كتابه (ملحمة گلگامش): يرجع زمن اكتشاف هذه الألواح إلى زمن الاستكشافات الأثرية التي قام بها أوائل المكتشفين من هواة الآثار وقناصل الدول الأجنبية ولا سيما (أوستن هنري ليرد) و(هرمز رسام) و(جورج سميث) في خزانة كتب الملك الآشوري أشوربانبيال، ولكن لم يفطن إلى أهمية هذا الاكتشاف إلا منذ عام 1872 حين أعلن جورج سميث نبأ اكتشافه لخبر الطوفان في محاضرة ألقاها على الجمعية الآثارية للتوراة في لندن.
(1)
من يقرأ قول العلّامة طه باقر سيظنّ أنّ الثلاثة نقّبوا معاً في مكتبة آشور بانبيال؛ فاكتشفوا الملحمة، وبمجرّد أن اطّلعوا على النقوش المسمارية، قرأوا اسم گلگامش بمنتهى السهولة، وعرفوا أنّ الملحمة تحكي عن مغامراته.
ولكنّ ذلك غير صحيح! قد يعدُّ البعض أنّ من الجرأة بمكان تخطئة العلّامة طه باقر في كلامه هذا! غير أنّه لا أقلَّ من أنْ يُقال: غير دقيق، يُضلِّل القارئ ويوهمه حتّى بخلاف ما يريده باقر نفسه.
في الحقيقة أنّ لايارْد لا علاقة له باكتشاف ملحمة گلگامش! ولا حتّى باكتشاف مكتبة آشور بانبيال؛ إذ كان الرجل أبعد ما يكون عن نينوى وقتها، كان في بريطانيا على بُعد آلاف الأميال. وما ذلك إلّا افتراء من قبل قَيـِّم المتحف البريطاني والِس بَدج في كتابه (على ضفاف النيل ودجلة) الذي نشره عام 1920.
كان بَدج حانقاً على رسَّام بسبب خلافه الشديد معه، وكان يصفه بالرجل الفاشل! ويستكثر على عراقيّ شرقيّ من عامة الناس مثله أن يكون له هذا الدور، رغمَ أنّ رسّام حاز على الجنسية البريطانية، وعاش ثلاثة أرباع حياته في بريطانيا، حتّى شاخ ومات فيها. كما أنّ عبارة العلامة طه باقر تُوحي بأنَّ رسّام لكم يكن يُعرف على أنّه عراقيّ.
يؤكّد البرفيسور ديڤيد دامروش في كتابه (كتاب بين الركام) ــ مصدر تحرير هذه المادّة ــ ذلك بقوله: أمّا اكتشاف مكتبة آشور بانيبال فينسبه ــ بَدح ــ بلا حياء إلى لايارْد، ويصفه بأنّه (اكتشافه الأعظم للألواح سنة 1854)، رغم أنّ لايارْد كان على بُعد آلاف الأميال في إنگلترا طيلة السنة المحورية التي قضاها رسَّام منقّباً.
هرمز رسَّام، هو الوحيد من بين الثلاثة وغيرهم، الذي كان ينقِّب في نينوى، وكان ينقِّب سرّاً في الليالي المقمرة، وكان يهزج هو وعمّاله المحلّيون حين اكتشفوا جداريات القصر المنقوشة بالأُسُود، ليلتها كان جورج سميث صبيّاً في الثالثة عشرة من عمره، ينام مع أبويه في بيتهم المتواضع بحيّ تشيلسي في لندن، ويفكِّر في ترك المدرسة بحثاً عن أيّ عمل يساعد به والده.
ثمَّة شخص رابع، ادّعى أنّه هو مكتشف ألواح المكتبة، وهو هنري راولينسون. ولكنّ ذلك ادّعاء عارٍ عن الصحّة؛ فقد كتب لايارْد في إحدى رسائله أنَّ راولينسون ــ كعادته ــ ادّعى لنفسه فضل اكتشافات رسَّام! والسبب الآخر هو أنّ راولينسون كان في بغداد على بُعد 400 كم عن الموصل، ولم يكن أكثر من مشرف عامّ من قبل المتحف البريطاني على تنقيبات رسَّام؛ فقط لأنّهم لا يثقون بشرقيّ! فضلاً عن أنّ راولينسون لم يكن موافقاً على التنقيبات باعتبار أنَّ لايارد استوفى كلَّ شيء، كما أنّه منح حقَّ التنقيب في تلّ قوينجق إلى الفرنسيين، ولم يكن ليوافق على تنقيبات رسَّام السرّية.
والخامس الذي نُسبت إليه اكتشافات رسّام، هو كِنِت لوفتوس، وكان منقِّباً يعمل بتمويل خاصّ. وقد نسبتها إليه الصحافة البريطانية، وبعض الفرنسيين؛ لأنّه ساعد في شحن مكتشفات رسَّام في حاوية كبيرة إلى لندن، وقد شحن معها بعضاً من لُقاه المتواضعة.
ومهما يكن، فرسّام هو الذي اكتشف قصر آشور بانيبال في ليلة 20 / 12 /1853، واكتشف مكتبته الكبرى في ليلة 22 / 12 /1853. ولكنه لم يكن يعرف أنَّ ألواح المكتبة تحتوي كِسَرها على ملحمة گلگامش. وبعد أكثر من سنتين، في عام 1856، وصلت الألواح واللُّقى إلى المتحف البريطانيّ وبقيت مُخزَّنة في صناديق كبيرة لمدّة 17 سنة، حتى عام 1872، حين عثر جورج سميث صدفةً ــ وهو يتفحّص الألواح واللُّقى في المتحف البريطاني ــ على لوح تهشَّم أوّله يحكي عن قصّة الطوفان.
وفي نهاية 1874 نشر جورج سميث أول ترجمة غير كاملة لملحمة گلگامش في كتابه (الرواية الكلدانية للطوفان)، حيث كان اهتمامه مُنصبّاً على قصّة طوفان نوح. وفي تلك الترجمة، كان اسم گلگامش يلفظ: إزدوبار، وكان يُظَنُّ أنّه النمرود. مات جورج سميث في عام 1876 دون أن يسمع باسم گلگامش أو يعرف شيئاً عن ملحمته.
(2)
في نيسان 1840، وصل رحّالة بريطانيّ شابّ في الثالثة والعشرين من عمره، اسمه أوستِن هنري لايارْد إلى مدينة الموصل. وفي آذار من تلك السنة، ولد في تشيلسي بلندن، طفلٌ اسمه: جورج سميث! آنذاك، كان في الموصل صبيّ عمره أربعة عشر عاماً، اسمه هُرمُز رَسَّام. وكانت الموصل، حينها، مدينة ريفية خاملة ترابية الشوارع، يسكنها خليطٌ من العرب والأكراد والكلدان المسيحيين.
ولد هرمز في الموصل سنة 1826، لأبٍ عراقيّ مسيحيّ كلداني آشوري، وأمّ سورية. وحين نقَّب لايارْد خارج مدينة الموصل عام 1845، ساعده كرستيان ــ أخو هرمز الأكبر ــ في توفير العمّال المحلّيين، ورشّح أخاه هرمز ــ كان عمره 19 سنة ــ ليعمل معه بصفة محاسب. لاحظ لايارْد أنّ هرمز كان شغوفاً بالآثار القديمة؛ فأصبح مساعده المؤتمن على أسرار التنقيب، وصديقه الأثير فيما بعد. في نهاية 1847، عاد لايارْد إلى لندن، مصطحباً معه هرمز ليلتحق بجامعة أكسفورد. تعثّر رسّام في دراسته في أكسفورد؛ فاقترح لايارد على أمناء المتحف البريطانيّ تعيينه بصف نائب له، في البعثة التي أرسلوه فيها إلى الموصل، فعاد إلى الموصل سنة 1849، برفقة لايارد، ونقَّبا لأكثر من سنتين، ثمّ عادا إلى إنگلترا سنة 1851، محمّلين باللُّقى والكنوز الأثرية.
قرَّر أمناء المتحف البريطانيّ تمويل بعثة تنقيب ثالثة إلى الموصل أواخر 1852؛ فاقترح لايارد أن يكون هرمز مبعوثهم، لانشغاله هو بالعمل السياسيّ. تردّد الأمناء في منح صلاحيات كاملة لعراقيّ شرقيّ في الخامسة والعشرين؛ لذلك تمّ الاتفاق مع هنري راولينسون، القنصل البريطاني في بغداد، ليكون مشرفاً على رسّام.
نقَّب رسَّام في تلّ قوينجق سرّاً في الليالي المقمرة؛ لأنّ الصراع الكولنياليّ بين الفرنسيين والبريطانيين وصل إلى تقسيم تلال الآثار بين المتنافسَين، وكان أن اتّفق القنصل الفرنسي في الموصل ڤكتور پلاس، مع القنصل البريطاني في بغداد هنري راولينسون، أن يكون تلّ قوينجق من ضمن حصة الفرنسيين. كان رسّام يعرف أنّ هذا التلّ هو مركز نينوى القديمة. كشف رسَّام، وعمّاله، غُرَف قصر آشور بانيبال واحدةً تلو واحدة، فوجد أنّ أرضية إحدى الغرف مغطّاة بآلاف الألواح المسمارية المصنوعة من الطين المشوي. لم يكن رسَّام يدرك أنّه عثر على مكتبة آشور بانيبال الكبرى، فهو لم يكن يعرف قراءة النقوش المسمارية.
غادر رسّام العراق، في آذار 1854، بعد أن نفد تمويل المتحف البريطانيّ، فتولّى كِنِت لوفتوس التنقيب في موقعه؛ وكان يعمل بتمويل خاصّ.
لم تُشحن مكتشفات هرمز رسَّام إلى إنگلترا، إلّا بعد سنتين، حين قام لوفتوس بشحن حاوية هائلة من النقوش واللُّقى في 1856، ضمَّت لُقاه المتواضعة مع الألواح والمنحوتات الكبرى والمهمّة التي اكتشفها رسَّام. لكنَّ الغريب أنّ الصحافة البريطانية، وكذلك المتحف، صارا ينسبان اكتشاف مكتبة آشور بانيبال مرّة إلى لايارْد، وأخرى إلى لوفتوس. أمّا هنري راولينسون فنشر عدّة مقالات عن ألواح المكتبة، مدّعياً أنّ اكتشاف قصر آشور بانيبال ومكتبته من إنجازاته هو، ولم يكن رسَّام إلّا منقّباً يُشرف على العمل. وفي فرنسا، عمَد ڤكتور پلاس إلى محو اسم رسَّام، وإثبات اسم لوفتوس محلَّه.
في عام 1860، توسَّط لايارد، الذي صار عضواً في البرلمان، لتعيين رسَّام في القنصلية البريطانية في عدَن. وفي 1864، صار لايارد نائباً لوزير الخارجية؛ فاقترح أنّ صديقه رسَّام خير من يحمل رسالة الملكة ڤكتوريا مع لقب (مبعوث فوق العادة) إلى ثيودور ملك الحبشة لإطلاق صراح الرهائن المعتقلين. لكنَّ ثيودور لم يستقبله إلّا بعد سنة ونصف قضاها بالانتظار القاتل! وفي عام 1865، استقبله، وبعد عدّة جلسات ومفاوضات، قرّر حبسه هو وحاشيته عام 1866 لمدّة سنتين في كوخ. وفي عام 1868، أرسلت الحكومة البريطانية حملة عسكرية كبيرة، للقضاء على تمرُّد ثيودور وتخليص الرهائن.
حين عاد رسَّام، منحته الحكومة 5 آلاف جنيه كجائزةِ اعتزازٍ بخدماته. لكنّه فوجئ بأنّ الصحافة كتبت عنه بأنّه غير مؤهل، وأنه كان مستسلماً ومرتشياً، وقد حاز لنفسه على امتيازاتٍ خاصَّة على حساب الأسرى الآخرين؛ فانزوى في توكِنهام من ضواحي لندن، بعد أن تقاعد بنصف راتب، وهو في الثانية والأربعين من عمره، وشرع في تأليف كتابه (قصّة البعثة البريطانية إلى ثيودور، ملك الحبشة) الذي نشره عام 1869 في 700 صفحة؛ ليروي فيه القصّة من وجهة نظره.
عاد رسَّام إلى التنقيب في نينوى لصالح المتحف البريطانيّ، وكانت لديه فِرق كثيرة من المنقّبين المحلّيين في أكثر من عشرة مواقع، يزورهم دوريَّاً. وكانت همّته تعجب من يلتقي بهم. أسفرت تنقيباته عن 70 ألف لوح طينيّ من سيپار، وبوابتين آشوريتين كبيرتين من البرونز، ونفائس أخرى كثيرة؛ فمنحته أكاديمية العلوم الملكية جائزة كبرى عام 1882. ومنذ عام 1883، بعد أن صار رائداً بين علماء الآثار، قرّر مواصلة تنسيق التنقيبات من لندن، بالاعتماد على رؤساء عمّال محلّيين من قرابته في الموصل.
نشر مروّجو الشائعات أنّ عمّال رسّام متّهمون بالتهريب وأنَّه متواطئ معهم في عمليات التجارة السرّية بالآثار. فاضطرّ أُمناء المتحف لإرسال مساعد القيِّم والِس بَدج؛ للتحقيق في الأمر سنة 1887. كان بَدج شابّاً في الثلاثين، ويطمح لإزاحة رسَّام ليأخذ مكانه. بقي هناك لسنتين، وحين عاد لم يستطع أن يثبت شيئاً، ولكنّه أشاع في المتحف أنّ هناك في العراق متاجرة بالآثار المنقّبة بطرق غير شرعية، وأنّ جميع رؤساء العمّال في المواقع البريطانية هم من أقارب رسّام.
في عام 1890، عُيّن بَدج لتنقيح (دليل المتحف) في قسم الشرق الأدنى فطمس اسم رسَّام ونسب اكتشافاته إلى راولينسون ولوفتوس، وزعم أنّه لم يُرسل إلى المتحف سوى كِسَر لا قيمة لها، بينما كانت أفضل الألواح تُباع سرّاً إلى خاصّة التجّار. فأرسل رسَّام إلى كبير الأمناء والمدير التنفيذي للمتحف يطلب منه الاعتذار والتحقيق في الأمر. لكنّه لم يفعل شيئاً؛ لصداقته مع بَدج.
ثانية، أرسل رسَّام شكوى من 48 صفحة؛ فاضطرّ بدج لكتابة رسالة اعتذار مشاكسة ذكر فيها أنّه كلامة فُهم خطأً، فهو قال: حصلنا على الأشياء التافهة، وغيرنا حصل على الألواح. واعتذر عن قوله: إنّ رسّام تربطه أواصر قربى بلصوص الآثار.
قام الأمناء بترقية بَدج إلى منصب مدير قسم الشرق الأدنى في المتحف. فكتب لايارد رسالة إلى جريدة التايمز اللندنية ينتقد فيها بدج لمحاولته تشويه سمعة رسّام وطمس ذكره من دليل المتحف، ويتّهم المتحف البريطانيّ بالتستّر على ذلك. بعدها رفع رسَّام قضيّة تشهير ضدّ بَدج. جرت المحاكمة في أواخر حزيران 1893، وطالب فيها رسَّام بتبرئة ساحته من السرقة، مع تعويضات قدرها ألف جنيه، ولكنَّ بَدج كان مُراوغاً ولديه معارف كُثُر؛ فأُغلقت القضيّة بإقرار هيئة المحلّفين أنّ بَدج قدَح في رسّام، مع تعويضات رمزية بقيمة 50 جنيهاً!. فكتبت صحيفة التايمز اللندنية: إنّ رسّام كان مُحقّاً. لكن ما كان ينبغي له أن يرفع قضية؛ إذ إنَّ اعتذار بَدج السابق يكفي!.
هذا الاعتذار الذي قال عنه القاضي الذي ترأّس المحاكمة: هذا أسخف اعتذار قرأته بحياتي، إنّه اعتذار لا ينمُّ عن رجولة؛ فهو لا يتراجع عن أيّ شيء قاله، ومن العبث أنّ نسمّي ذلك اعتذاراً ينبغي أن يكتبه جنتلمان لآخر!.
وما يزال قسم المحفوظات المركزي في المكتبة البريطانية، يحتفظ بملف ضخم عنوانه: (رسّام ضدّ بَدج، 1893).
عاد رسَّام إلى منزله المنعزل بعد أن أثقلته القضيّة بأعباء مالية لم يغطّها التعويض الرمزي، فيما تبرَّع أصدقاء بَدج بدفع تكاليفه، ثمَّ رُقِّي في السنة التالية إلى منصب القيِّم الدائم لقسم مقتنيات الشرق الأدنى في المتحف البريطانيّ، وبقي فيه حتّى التقاعد!.
كتب رسَّام مذكّراته الأثرية (آشور وأرض النمرود) كمحاولة دفاع أخيرة عن إسهاماته واكتشافه؛ إلّا أنّه لم يجد ناشراً بريطانياً واحداً، وبعد تأخير طويل، نشرها في نيويورك عام 1897، وأهداها إلى صديقه الصدوق، رائد مستكشفي الآثار الآشورية، أوستن هنري لايارد، الذي صفتْ لي مودّته في شبابي ودامت في هرَمي، كما يقول. ولكنَّ لايارد مات قبل ذلك بثلاث سنين، في 1894.
توفّي هرمز رسَّام في عام 1910، وهو في الرابعة والثمانين من العمر.