بغداد: قاسم موزان
تصوير: علي قاسم
في خضم التوسع العمراني غير المدروس، اختفت آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية في ضواحي بغداد، لتحل محلها مشاريع سكنية وصناعية. هذه الظاهرة المتصاعدة لا تهدد فقط التوازن البيئي، بل تنعكس أيضاً على الأمن الغذائي للبلاد وتفاقم أزمة التصحر.
وتشير تقارير غير رسمية إلى أن حوالي 1.5 مليون دونم من الأراضي الزراعية تم تجريفها في السنوات الخمس الأخيرة، ما يعكس حجم الكارثة البيئية التي يمكن أن يواجهها العراق.. لكن، ما هي الأسباب التي تقف وراء هذا التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية؟ وما هي الخطط الفعالة لمواجهة هذا التهديد البيئي؟
أحمد مرزا ياسين، رئيس مهندسين أقدم في دائرة البستنة في وزارة الزراعة، يؤكد أن هذا التجريف لا يقتصر على إزالة الأشجار فقط، بل يشمل تدمير النظام البيئي ككل، موضحاً بقوله: "عندما تُجرف هذه الأراضي، تتم إزالة الطبقة السطحية للتربة التي تحتوي على العناصر الغذائية الأساسية للنباتات، ما يؤدي إلى تدهور الخصوبة ويزيد من خطر التصحر.
أسباب نشوء الظاهرة
تتنوع الأسباب التي أسهمت في انتشار ظاهرة تجريف الأراضي الزراعية، منها عوامل اقتصادية وأخرى اجتماعية، وبيئية، تتداخل
مع بعضها بشكل معقد.
ولعل من أبرز هذه الأسباب الارتفاع الكبير في أسعار العقارات، لا سيما في بغداد، التي يناهز عدد نفوسها الـ(9) ملايين نسمة، فقد شهدت الأراضي السكنية في العاصمة ارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار، حيث سجلت بعض المناطق زيادات تصل إلى 30% في سعر المتر المربع بين عامي 2019 و2020. بسبب هذا الارتفاع، باتت الأراضي الزراعية الخيار الأرخص للعديد من المستثمرين والمواطنين، الذين قاموا بشرائها وتحويلها إلى مشاريع سكنية أو صناعية.
وفي هذا الصدد، يقول حميد سهر، أحد مالكي الأراضي الزراعية في بغداد : "الأسعار أصبحت خيالية، لذلك قررنا بيع الأراضي الزراعية وتحويلها إلى سكنية، لأن العوائد ستكون أكبر بكثير من الزراعة التي أصبحت غير مجدية اقتصادياً".
المياه والتغير المناخي
إضافة إلى الأزمة الاقتصادية، يواجه العراق أزمة مائية خانقة بسبب نقص الأمطار وتغير المناخ، والسياسات المائية لدول الجوار التي تحد من تدفق الأنهار مثل دجلة والفرات. هذه العوامل جعلت العديد من الفلاحين يتخلون عن أراضيهم الزراعية، ما دفعهم إما للهجرة إلى المدن أو بيع أراضيهم، الأمر الذي أكده المهندس الزراعي وسام نوري شوكة، بقوله: إن "نقص المياه جعل الري أمراً صعباً في العديد من المناطق الزراعية، ما دفع الفلاحين إلى التوجه إلى المدن بحثًا عن فرص عمل أخرى، خصوصاً بعد أن أصبحت الزراعة غير مجدية اقتصادياً".
التوسع العشوائي
من العوامل التي أسهمت في تفشي ظاهرة التجريف هو التمدد العشوائي للمدن، وافتقار العديد من المناطق في العراق إلى خطط حضرية مدروسة، ما ساعد على أن تتحول الأراضي الزراعية إلى أراضٍ سكنية أو صناعية. في معظم الأحيان، تكون الأراضي الزراعية هي الخيار الأول للمستثمرين، بسبب أسعارها الأقل مقارنة بالأراضي السكنية.
ووفقاً لبيانات وزارة التخطيط، فإن أكثر من 3.5 مليون مواطن يسكنون في 560 ألف وحدة سكنية ضمن التجمعات العشوائية.
كما أن هناك قرابة الـ 4 آلاف تجمع عشوائي منتشر في جميع محافظات العراق، تتصدرها بغداد التي تحتل المركز الأول بواقع 1073 تجمعاً عشوائياً، تليها محافظة البصرة بأكثر من 700 تجمع عشوائي، ومن ثم باقي المحافظات بأعداد متباينة.
التأثيرات البيئيَّة
مساوئ التجريف لا تتوقف عند تشويه منظر المدينة، والعشوائية في البناء والتصميم، فإزالة الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مشاريع سكنية وصناعية يحملان تأثيرات بيئية كارثية. ففي تقرير أعدته جامعة بغداد، تبين أن تجريف الأراضي الزراعية يؤدي إلى زيادة ملوحة التربة، وتقليص الغطاء النباتي، ما يعزز الظواهر المناخية السلبية مثل العواصف الترابية، ويزيد من تلوث الهواء.
وتقول عذراء المسعودي، الصحفية البيئية: إن "الغطاء النباتي كان يلعب دوراً حيويًا في حماية بغداد من العواصف الترابية التي تضربها باستمرار". وتضيف "مع تراجع المساحات الخضراء، أصبح الهواء أكثر تلوثاً، وزادت الأتربة في الجو، ما أدى إلى تدهور جودة الحياة في المدينة".
علاوة على ذلك، فإن الأراضي التي تُجرف تصبح عرضة للتعرية بسبب فقدان الغطاء النباتي، ما يسهم في زيادة معدلات التصحر. وفقاً للمسعودي، التي أوضحت "حتى لو تمت محاولات للزراعة مجدداً، فإن البيئة المتدهورة تجعل من الصعب إعادة إحياء تلك الأراضي كما كانت".
الآثار الاقتصاديَّة
إلى جانب التأثيرات البيئية، فإن التجريف له آثار اقتصادية جسيمة. فقد أفادت وزارة الزراعة بأن أكثر من 100 ألف وظيفة زراعية تم فقدانها في السنوات الخمس الأخيرة بسبب تدمير الأراضي الزراعية. وتشير التقديرات إلى أن إنتاجية الزراعة في العراق تراجعت بنسبة 30% خلال العقدين الماضيين.
ومما يزيد من حدة الأزمة هو أن إنتاج المحاصيل المحلية بات يعاني من تراجع كبير، حيث أصبح العراق يعتمد بشكل متزايد على استيراد المواد الغذائية من دول الجوار. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، فإن العراق اليوم يستورد حوالي 40% من احتياجاته الغذائية، بينما كان يُنتج معظم حاجاته داخليًا في السابق".
حلول مؤجلة
من جانبها، حاولت وزارة الزراعة اتخاذ بعض الإجراءات للحد من هذه الظاهرة، حيث أصدرت قانونًا في تموز 2023 يمنع تجريف الأراضي الزراعية إلا في حالات استثنائية، وفرضت عقوبات صارمة على المخالفين. لكن الواقع يظل مغايراً، إذ إن تطبيق هذه القوانين يعاني من ضعف الرقابة، وما زالت هناك تحديات كبيرة في تنفيذها.
أحمد مرزا ياسين، رئيس مهندسين أقدم في دائرة البستنة، يؤكد أنه "على الرغم من وجود قوانين لحماية الأراضي الزراعية، فإن غياب التنسيق بين الوزارات المعنية، وكذلك ضعف الرقابة، يجعل من الصعب الحد من تجريف الأرض".
الحلول المقترحة
لحل هذه الأزمة، يرى العديد من الخبراء ضرورة وضع استراتيجية شاملة للحفاظ على الأراضي الزراعية. يقول وسام نوري شوكة: "الحل يكمن في استخدام تقنيات الري الحديثة التي توفر المياه وتزيد من إنتاجية الأراضي، ويجب تشجيع المزارعين على استخدام أنظمة الري بالتنقيط أو الري بالرش، وهذا سيسهم في تحسين جودة الزراعة وتقليل هدر المياه".
ويضيف "علاوة على ذلك، يجب على الحكومة تقديم حوافز اقتصادية للمزارعين الذين يلتزمون بالزراعة المستدامة، وتوفير الدعم اللازم لهم، خاصة في المناطق التي تضررت بشدة من التجريف".
ورغم ما يواجهه المستقبل الزراعي في العراق من تحديات ومخاطر، لكن الوقت ما زال سانحاً لتغيير المسار، شريطة أن تتضافر الجهود الحكومية والمجتمعية لحماية الأرض.. المورد الطبيعي الأكثر أهمية.