د. رائدة العامري
يتحرّى الكتاب الموسوم بـ "تسليع الخطاب: كيف يشيّدنا الخطاب ونشيّده" للدكتور حيدر غضبان المصطلح أولا، ومن ثمّ طريقة عمل هذا المصطلح بين التأثير في الكيان الثقافي العام للإنسان؛ أو تأثير الإنسان في صوغ فضاء المصطلح وآليّة عمله، وقد ربط الكاتب فعاليّة مصطلح "الخطاب" بآليَّة التسليع "تسليع الخطاب" بكل ما ينطوي عليه فكر التسليع من إشكالات معرفية واجتماعية وثقافية لا حدود لها، في ضوء حركية التفاعل -على مستوى الأدوات- بين "عتبة اللسانيات" و "ميدان النقد".
على أساس أن إدراك حدود المصطلح وكشف قوة فاعليته في الميدان تتأسس على وفق طبيعة المرجعية المعرفية التي ينطلق منها، على صعيد المفهوم والمصطلح وآليّة الحراك المعرفي على مستوى الأداء وتحقيق النتائج المطلوبة، فاللسانيات النقديّة على هذا النحو تعدّ مرجعاً من مرجعيات التحليل النقدي للخطاب وليس مصطلحا مرادفا له، لاختلاف الأسس المنهجية التي يشتغل عليها كلّ منهما في هذا السياق.
يقوم الكتاب على توجيه سؤال مهم يتحرّك داخل مفاصل الكتاب على أنه جوهر الأطروحة المعرفية فيه، وهو هل أنّ الخطاب سلعة "تُنتَج، وتُوزّع، وتُستهلك، ولها موارد بشريّة تغذّي هذا الإنتاج؟" وهو سؤال يعدّ البؤرة التي ينطلق منها هذا الكتاب في أطروحته الأساسية لفهم عملية أو إمكانية تعرّض الخطاب للتسليع، إذ تقدّم اللسانيات النقدية مفهومها الخاص على وفق أساسيات تتعلق بأفق المنهج العامل في حقلها، لذا لا يمكنها في النهاية أن تجيب عن أسئلة الخطاب في واقعه الميداني الفاعل على مستوى شبكة المفاهيم والإجراءات، ويحاول في كتابه المهم هذا أن يقارب شبكة من المفاهيم في الفصل الأول من الكتاب، مثل الممارسة الاجتماعية والبناء الاجتماعي والفاعل الاجتماعي، منتقلاً منها نحو الصراع الاجتماعي من أجل الوصول إلى مصطلح "التسليع" بوصفه المصطلح المركز في هذه المعالجة المعرفيَّة، وبمجرّد أن يربط مصطلح "التسليع" بالرأسمالية فإنَّ المحتوى الاصطلاحي للمفهومي يبدأ بالظهور والتبنين، وإذا كان كارل ماركس قد حدّد قيمتين للسلعة هما: استعماليّة وتداوليّة في ضوء مفهومه المادي المعروف للأشياء؛ فإنَّ بوديار نقل المفهوم نحو الحيّز العلامي السيميائي الرمزي حيث تتحدّد القيمة المفهوميّة للتسليع بالجانب الرمزي وليس المنفعي، بحكم طبيعة الفلسفة التي يشتغل عليها حيث يأخذ المفهوم قيمته المعرفيّة الحديثة على هذا الأساس.
يحاول الكاتب في الفصل الثاني مقاربة جدليّة الممارسة الخطابيّة والتشييدات الاجتماعية، متبنياً مفهوم الجدليّة عند فيركلاف الذي يؤطر مفهوم العلاقة الجدلية بين الخطاب والبناء الاجتماعي من خلال منحيين، المنحى الأول هو المنحى التفاعلي على أساس قياس حجم تأثير كلّ منهما في الآخر، والمنحى الثاني القائم على إدراك طبيعة العلاقة الجدليَّة بين الخطاب بوصفه عنصراً من عناصر العملية الاجتماعية بحسب فيركلاف، وبين العناصر الاجتماعية الأخرى في التأكيد على مستوى اختلافها وعدم انفصالها، بما يجعل هذه العلاقة تكامليَّة لعدم وجود تناقض بينهما يحول من دون هذا التكامل، وتتحرك هذه العلاقة عنده من خلال شبكة من المفاهيم والإجراءات تبدأ بالبنى الاجتماعية، ثم الممارسة الاجتماعية، والأحداث الاجتماعية، ثم يقارب الممارسة الخطابية بوصفها شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية وهي تتألف من ثلاثة مكوّنات أساسية ومركزية هي: الأصناف التي تمثل طُرق الفعل، والضروب التي هي طرق تمثيل، ثم الأساليب التي هي طرق كينونة.
يؤكّد الكاتب في مقاربة مفهوم فيركلاف حول فكرة تسليع الممارسة الخطابيّة على مرحلتين، تمثل المرحلة الأولى رؤيته في أن عملية الخطاب تشمل إنتاج النص وتفسيره والتفاعل بينهما؛ فضلاً عن الموارد أو الأحوال أو السياقات، على النحو الذي تقتضي فيه عملية تحليل الخطاب هنا ثلاث خطوات هي: الوصف والتفسير والشرح، ومن ثمَّ يخوض في سلسلة من المقاربات التي يؤدي بعضها إلى بعض، وينتج بعضها البعض الآخر، في فعالية حفر داخل جوهر المقولات والأفكار والقيم للوصول إلى النتيجة المرجوة، في عملية الكشف عن الصراع الاجتماعي القائم بين المقاومة والهيمنة؛ فقد يقاوم المستهلكون أو يتبنّون جوانب التغيير الآتية من فوق أو يحاربونها فقط، وعلى هذا الأساس يتحدد مصير المفهوم.
إنَّ الأطروحة المركزية للكتاب تتمثل في محتوى الفصل الثالث المتمثل بجدلية الخطاب والتغيير الاجتماعي في مبارزة غزوة بدر الكبرى، في ظلّ البحث داخل التحليل النقدي للخطاب الذي يأتي في نمطين من الممارسات الخطابيّة، يتجلى النمط الأول في ممارسة خطابية تعيد إنتاج السلطة وتحافظ عليها أو تزيدها، حيث يتحول المستهلكون إلى كائنات مستعبَدة لفائدة السلطة بما يعدم محاولات التغيير الاجتماعي، أما النمط الثاني فهو الذي يتضمن صراعاً اجتماعياً من حيث محاولة المستهلكين تغيير النُظُم المهيمنة، ويكوّن خطاباً مواجِهاً ومقاوِماً للهيمنة، واستعرض الكاتب كل ما يحيط بفكرة الحروب القديمة وآلياتها وقضاياها، ولا سيما فقرة المبارزة بطاقتها العلاميَّة الكبرى داخل مضمار هذه المعارك، وما يترتب على الخطاب العربي الإسلامي من رؤية تشكيلية في تشكيل الخطاب وتسييره، من خلال مراحل الخطاب الإسلامي الخمسة الأساسية التي تبدأ بخطاب الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم"، ثم خطاب الخلفاء الراشدين، والخطاب الأموي والخطاب العباسي، فالخطاب في العصور المتأخرة وصولاً إلى الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر.
اعتمد الباحث على أكثر من رواية بشأن فعالية المبارزة وشخوصها وما جرى فيها من حوارات وهتافات وغير ذلك، وأخضعها للتحليل والمقايسة على أساس مفهوم الخطاب الذي جاء به واشتغل عليه، بهدف الوصول إلى الغاية المركزيَّة التي تجعل من فكرة تسليع الخطاب فكرة جوهريَّة في تحيل نُظُم الخطاب، والعمل على إنتاج رؤية ضمنها بعض التوصيات في نهاية الكتاب على أساس أنها يمكن أن تكون نتائج بحثيَّة في هذا المجال.
تتجلى أهمية الكتاب في أطروحة "التسليع" التي أتى عليها وقاربها من جوانب تاريخية واجتماعية وثقافية عديدة، وفّرت له قاعدة معرفية لتداول المفهوم والمصطلح في سياق تحليلي نوعي، وربما يُحيلنا هذا الأمر على سؤال يمكن أن يطرح على مؤلف الكتاب يتعلق بما آلت إليه فكرة تسليع الخطاب في الوقت الراهن، ولا شك في أن صورة حالة الفساد التي وصلت إليها المجتمعات الحديثة هي من أبرز نتائج تسليع الخطاب، بحيث يمكن أن يكون خطاب الفساد أحد أكثر الخطابات حضوراً وتأثيراً في عالم اليوم، على النحو الذي يحتاج إلى تحليل عميق يتواصل مع ما وصل إليه المؤلف في هذا الكتاب المهم.