بغداد تعودُ محوراً ومحركاً

آراء 2019/06/29
...

د. علي يوسف الشكري
عاشت بغداد مذ عُرفت مدينة عصريَّة، سلسلة من الانتصارات والهزائم، لكنها في ألقها جميلة وفي سكونها فاتنة، في انتصارها متصدرة رائدة، وفي انكسارها محط أنظار الجميع، حيث ينتظر الكل نهضة بغداد وانتفاضها على الواقع المفروض.
لم يمض عهدٌ إلا وبغداد يقهرها الطغاة من الحكام، فقد منَّ اللهُ على بغداد بالحرثِ والنسلِ، بالإنسان والثروة، لكن الغالب ممن حكمها، لم يعرف قيمة بغداد، وشعب بغداد، وموقع بغداد، ونهر بغداد، وحجر بغداد، ونبت بغداد، آه بغداد وقف العالم منحنياً لشموخك وكبريائك ومكانتك، وبخس حكامك قيمتك فخانوك قبل أنْ يخونوا شعبك، لكنك بقاية وأعمار الطغاة قصار، فما قصدكِ جبار إلا وزال إلى صفحات التاريخ السود وعمرك ربيع أخضر.
غُيبتِ قسراً مذ وطأتك أقدام الطغاة، لكنَّ تاريخك سفرٌ خالدٌ ومن خانك وتآمر عليك وخذلك خالدٌ في ذكر التاريخ الأسوأ.
ويقيناً إنَّ حصارك الأخير وعلى مدى عقدين ونصف من الزمان لم يكن الأول ولن يكون الأخير، لكنك خرجتِ منتصرة وعادت شمسك مشرقة، عاد رواقك مشرعاً، الجميع يتطلع إليك بنظره الشاخص، قصدك الباغض والمحب، الحاسد والغابط، الصديق والشقيق، وبالرغم من جراحك عادت بغداد القائدة، بغداد الرائدة، بغداد الخير، نعم لم يكن ثمن عودتك يسيراً، فقد عصف الاحتلال بترابك، وضرب الإرهاب آمنيك، وأرق الدمار عمرانك، وغاب عنك الأمن حتى صُنفت العاصمة الأقل أمناً والأكثر خطراً، والأسوأ معيشة.
لكنك بغداد، قد تمرضين ولكنك لن تموتي، ففيك الإمام، والعالم، والعارف، والكريم، وفيك الإنسان والحجر، الشعر والأدب، الثقافة والفنون، الأرض والنهر، الحرث والنسل.
قبل سنوات قليلة خلت ربما لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كان استقبالك رئيس دولة أو رئيس حكومة حدثاً يحتفي به الشعب ويهلل له الإعلام، وتعلن الأروقة الرسمية الإنذار استعداداً للضيف القادم، واليوم يعود القصر الرئاسي والحكومي مشرع الأبواب لاستقبال الضيوف من رؤساء الدول والحكومات والوفود الرسمية، فما أن يودع رئيس إلا ويستقبل نظير، وما أن يخرج وفد إلا ويدخل آخر والجميع يتطلع ويشخص ببصره إلى بغداد، ولكن هذه المرة بغداد السلام، بغداد الوئام، بغداد جامعة الفرقاء، بغداد مقربة المتباعدين، حاضنة المختلفين راهن الجميع على أن بغداد لن تستعيد ألقها ولو بعد عشرات السنين، لكنها ما لبثت أن انتفضت على واقعها، فنفضت غبار سياسات حكامها المستبدين، فولى عهد الطغاة المتجبرين الذين ناصبوا شعبهم العداء قبل الأشقاء، فجاءت سياستهم الهوجاء على الشعب والجار والصديق، فلم يبقوا لبغداد صديقاً أو حليفاً، لكنهم زائلون وبغداد باقية.
ويقيناً إنَّ عودة بغداد الحاضنة لن تمر دون تآمر أو محاولات للعودة بها إلى المربع الأول حيث العزلة والإقصاء، كيف لا وبغداد لم تعد عاصمة تستقبل وتودع، بل أضحت وسيطة بين الفرقاء، فبعد قطيعة ومقاطعة، وعزلة وإقصاء، عادت بغداد حرة في قرارها، هاجسها المصلحة العليا، وهدفها العراق أولاً، لا أولوية قبل أمن العراق واستقراره، الشعب فوق كل اعتبار، والوطن قبل كل مقدم، ويقيناً إنَّ حاكماً يخطط ويعمل وينفذ بهذه الآلية لن يروق لكثير ممن أراد بالعراق ولما يزل سوءاً، فراح هذا الحاقد المأزوم، يتهم العراق بالتبعيَّة والخضوع لسياسة الإملاءات، ويقيناً إنَّ الصحيح لا بد أن يصح ولو بعد حين.
وكيف لا يُخطط للعودة ببغداد إلى العزلة، وهي لم تعد أسيرة في قرارها، متخلفة في مسيرتها، تابعة في مواقفها، لكنها عادت قائدة رائدة، وسطية وسيطة، تقول وتعمل، تخطط كي تنفذ، تعد فتفي، فيها ما ليس في غيرها، فالدين فيها، والعقل عندها، والثروة تنضح من أرضها، الماء يجري في أنهارها، والغيرة تنبض في عروقها، الشجاعة سمة رجالها، والحشمة صفة نسائها، العروبة ولدت فيها، والإقدام والعزيمة من خصائصها.. والقائمة تطول.
وبعد عزل وعزلة تعود بغداد لتتوسط بين الفرقاء المتخاصمين، ففي أروقتها الرسمية راحت تدور محاولات جمع الشرق والغرب، قصدتها الدبلوماسية الأميركيَّة، واحتضنت الجهد الدبلوماسي الإيراني، وقصدتها الوساطة العمانية الخليجية، وراح الروس يتداولون مع مسؤوليها آخر مستجدات الإقليم، واليوم تطأ أقدام أمير الكويت أرضها، لتطوي صفحة مظلمة من تاريخ العلاقة الأسوأ، بعد أن غزا المهزوم أرض الشقيق ليثبت للآخر طغيانه وجبروته، فزال والكويت وبغداد باقيتان.
بغداد هذا هو شانك فليس غريباً أن تعودي قائدة، فأنت على مدى عمرك المديد، تقودين ولا تُقادين، نعم قد يأسرك التآمر، وقد تقيدك سياسات حكامك المستبدين، قد يأفل نجمك، وقد تقفين منتظرة في دكة المستريحين حيناً من الدهر، لكن قدرك يأبى إلا أن تكوني متصدرة قائدة.
هكذا ولدت بغداد، وهكذا نشأت وترعرعت، فأنت كبيرة مذ عرفت مدينة وعاصمة، وستبقين في مقدمة الركب وإن تكالبت عليك الأهوال وتآمر عليك الحاقدون، فالقيادة صفة، والريادة إرادة وعزيمة، والصدارة قدرة وقابلية.
ولكن حذار أن تقعي في فخ من خطط فأوقع، وتآمر فحقق، وحفر فعمق، فالحكيم من اكتفى بتجاربه السابقة، لا بتجارب غيره، فلا يزال جرحك القديم ينزف، ولما تزل الجراح تثخن شعبك، ولم تنته ولن تنتهي مخططات القريب والبعيد للإيقاع بك، فتاريخك يثير، وعمقك يؤزم، وعلمك يغيض، ونهضتك تحرك شجون الحاسدين.
كفاك بغداد تدرين الخير كي ينهل منه الآخر وشعبك يفترش الأرض ويلتحف السماء، كفاك بغداد تشقين كي ينعم الآخر، وتدق أسوارك النيران كي يأمن غيرك، وتهدر ثرواتك كي تبنى الأوطان، فليكن شعارك هذه المرة أمن العراق أولاً وقبل كل مقدم، وشعبك أولوية لا أولوية قبله، الثروة لشعبه ولا بأس من مد يد العون، فالإنسانية مطلوبة ومطلب، ولكن لا على حساب الشعب، فالعراق قدم وضحى وأكرم وهدر، ولا من مغيث حين وقع أسير الحصار ثم الاحتلال فالإرهاب، والسعيد من أتعظ من أمسه
 لغده.