دور ذاكرة التاريخ في الصراع السوري

آراء 2024/12/12
...

 أحمد حسن


إن التأمل في المشاهد التي صاحبت اقتحام الفصائل المسلحة السورية لمدينة حلب، وهي ترفع شعارات التكبير، يعيد إلى الأذهان صورة مأساوية مشابهة لمشهد اجتياح تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" لمدينة الموصل في عام 2014. كلا الحدثين يرمزان إلى حلقات متكررة من العنف، حيث يتلبّس التاريخ بوجه جديد، لكن بذات القسوة والدموية. وكأن الأزمنة تُساق قسرًا إلى ساحة الصراعات لتشهد كيف تتهاوى المدن تحت وطأة الشعارات والهويات الدينية التي تُستخدم أدوات لتبرير الخراب.

في هذا السياق، تصبح الذاكرة التاريخية أكثر من مجرد خزانة للأحداث الماضية؛ إذ تتحول إلى سلاح يُستخدم في النزاعات السياسية، وأداة شرعنة للأيديولوجيات والهويات الجماعية التي تقف وراءها أطراف محلية وإقليمية ودولية. في الشرق الأوسط، أصبحت الذاكرة التاريخية بما تحمله من رمزية أداة مزدوجة الوظيفة: من جهة، تعبئة الشعوب، ومن جهة أخرى، تبرير الكوارث والمآسي، وكأن الحاضر ليس سوى امتداد للماضي ولكن بلغة أكثر حدّة. في هذا الإطار المعقد، برزت "هيئة تحرير الشام" بقيادة "أبو محمد الجولاني"، الذي سعى إلى إعادة تقديم نفسه بوجه جديد، أقرب إلى صورة حركة طالبان بعد سيطرتها على كابول. لم يكن هذا التحوّل مجرد صدفة، بل كان خطوة محسوبة هدف من خلالها الجولاني إلى التخلص من صورته كحليف سابق لتنظيم داعش، ساعيًا للظهور كفاعل مستقل يمتلك مشروعًا سياسيًا خاصًا. هذا التحوّل لا يعكس طموحات الجولاني الشخصية فحسب، بل يكشف عن أبعاد أعمق للأزمة السورية، التي تجاوزت كونها صراعًا داخليًا، لتصبح مشهدًا سياسيًا معقدًا، حيث تتصادم في سياق محكوم بالذاكرة التاريخية والرمزية الروحية التي تستخدمها الأطراف المتنازعة لتبرير تدخلاتها وتحقيق أهدافها. كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو: "السلطة ليست مجرد شيء يمتلكه الفرد، بل هي شبكة من العلاقات تتشكل من خلال مفاهيم وأيديولوجيات ورموز".

في هذا السياق، نجد أن تركيا اليوم أمام تحديات أكبر، حيث بدأت في إعادة تقييم أولوياتها في ضوء التحولات الإقليمية المتسارعة. ففي علاقاتها مع روسيا وإيران، وحساباتها في شمال سوريا، تبدو تركيا وكأنها تسير على حبل مشدود، تحاول الموازنة بين التناقضات الداخلية والخارجية التي تضغط عليها باستمرار. ورغم هذه التحديات، أكّد الرئيس أردوغان دعمه المستمر للفصائل المسلحة السورية، مما يشير إلى استمرار التورط التركي في الأزمة السورية، على الصعيدين العسكري والسياسي.

إيران، رغم التحديات الكبيرة في تراجع نفوذها في لبنان وسوريا، أظهرت قدرة على التكيف مع المتغيرات الإقليمية. في مسعى لتقليل تأثير هذه التحديات، بدأت تبحث عن الفراغات الدبلوماسية التي يتركها الآخرون لتملأها، محاوِلة تقديم نفسها كوسيط قادر على تخفيف حدة الصراعات بدلاً من أن تُنظر إليها كطرف متورط. زيارات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بين دمشق وأنقرة وبغداد تعكس رغبة طهران في الإبقاء على وجودها في الصورة الإقليمية، دون اللجوء إلى التصعيد العسكري. هذا التوجه يظهر جانبًا من البراغماتية الإيرانية، ويعكس سعي طهران لاستغلال الفرص للحفاظ على تأثيرها دون الانجرار إلى تصعيدات جديدة. أما العراق، ورغم موقعه الاستراتيجي وتاريخه العريق، يظل مترددًا في لعب دور إقليمي يتناسب مع إمكانياته. التردد قد يكون نتيجة لجراحه الداخلية، أو خوفًا من الانزلاق في تحيزات تؤثر في موقفه وأمنه القومي. ومع ذلك، إذا أراد العراق استعادة دوره المحوري، فإن الأزمة السورية تمثل فرصة ذهبية له ليكون وسيطًا نزيهًا بين الأطراف المتصارعة. من خلال مبادرة عراقية حيادية، يمكن لبغداد أن تجمع الأطراف المتنازعة في إطار يستند إلى مصالح وطنية مشتركة بعيدًا عن التدخلات الأجنبية. فاستقرار سوريا ليس مجرد مصلحة سورية، بل هو ضرورة للعراق الذي يعاني أصلاً من تبعات هذه الأزمة على حدوده وأمنه الداخلي.

ما يجري في سوريا اليوم يُعد أنموذجًا لكيفية استغلال التاريخ والذاكرة كأدوات لإعادة تشكيل الحاضر. القوى الإقليمية الكبرى، مثل تركيا وإيران، تستغل هذا المشهد المعقد لفرض سياساتها، بينما يبقى العراق في موقع يمكنه من أن يكون عنصر توازن واستقرار، شريطة أن ينهض من تردده ويبدأ في صياغة رؤى مستقلة بعيدًا عن الضغوط الخارجية.


باحث وأكاديمي