اقرأوا التاريخ واستقرئوا الجغرافيا واحذروا العاصفة

آراء 2024/12/18
...

 محمد صاحب الدراجي *

لا يُخفى على عاقلٍ أنَّ منطقة الشرق الأوسط مقبلةٌ على تغييراتٍ جوهريَّة وليست متغيراتٍ آنيَّة تتعلقُ بتبديل أنظمة، وإنّما لرسم جغرافيا سياسيَّة جديدة. ومن خلال مراجعة تاريخيَّة للاتفاقيات أو المعاهدات التي شكلت الجغرافيا الحاليَّة لمنطقتنا في بدايات القرن الماضي نجد أنَّ تراتبيَّة اتفاقيَّة (سايكس بيكو) عام ١٩١٦ و(وعد بلفور) عام ١٩١٧ ومعاهدة (فرساي) عام ١٩١٩ ومعاهدة (لوزان) ١٩٢٣، سمحت للإمبراطوريَّة البريطانيَّة ذات العقليَّة الاستعماريَّة حينها أنْ تكون اللاعب الأساسي في رسم جغرافيا جديدة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتنسيق مع حلفائها المنتصرين بالحرب العالميَّة الأولى لتكون نقطة تحولٍ زمني في هذه المنطقة ليبدأ منها تاريخٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ لدولٍ بمسمياتٍ جديدة وحدودٍ مرسومة على الورق لا على الطبيعة الجغرافيَّة.

إنَّ هذه الدول الكبرى التي خاضت الحروبَ واحتلت البلدان كانت الغاية الأساسيَّة لها هي الانتعاش الاقتصادي لبلدانها وشعوبها من خلال السيطرة على ثروات الآخرين أو ضمان ممراتٍ تجاريَّة آمنة لنشاطاتها الاقتصاديَّة، لذلك فعندما رسمت الخارطة التقسيميَّة لمنطقتنا استصحبت الأسسَ الاقتصاديَّة الخاصَّة بها في تملّكها لهذه البلاد، ومن أهم مبادئ الملكيَّة التجاريَّة فيها للأراضي والعقارات هو مبدأ المالك المطلق (freeholder) الذي يملك الأصول العقاريَّة للأبد بحكم شراء الأصل أو الاستحواذ أو الوراثة والذي يطلق عليه اصطلاحاً في العراق الملك الأميري، ومبدأ المالك المؤقت المحدد بزمن  (leaseholder)وغالباً ما تكون هذه المدة ١٠٠ سنة، أو ما يطلق عليه اصطلاحاً في العراق ملك حق الرقبة.

لذلك فقد اعتبرت هذه الدول المنتصرة للأسف أنَّ غنيمتها في الحرب العالميَّة الأولى من الأراضي التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانيَّة ملكٌ أميريٌ صرفٌ وأنَّ إدارات هذه الدول وحكوماتها مالكٌ مؤقتٌ لحق الرقبة ممكن يتغير من وقتٍ لآخر ضمن المدة الزمنيَّة المحدده لهذا الحق.

لذلك نرى حتى بعد تغير معادلة القوة العالميَّة بعد الحرب العالميَّة الثانية وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوى عظمى جديدة احترمت التقسيم الجغرافي الناتج عن الحرب العالميَّة الأولى وأخذت استحقاقاتها كدولٍ منتصرة بصورة نفوذٍ اقتصادي مباشرٍ على ذات الخارطة القائمة ولعبت دور الإدارة العقاريَّة لمالكي حق الرقبة للأصول المستحوذ عليها من قبل الدول المنتصرة في الحرب

الأولى.

 أما الآن وقد انتهت فترة الـ١٠٠ عامٍ وبوجود معادلات عالميَّة وإقليميَّة جديده فأصبح من الحتمي تاريخياً أنْ تتمَّ إعادة رسم المعادلات الجغرافيَّة في المنطقة وتغيير مالكي حق الرقبة (الأنظمة السياسيَّة) أو التجديد لهم بطريقةٍ تعتمدُ على مدى توافق هذا الأداء مع واقع النظام الاقتصادي العالمي، وبحسب المعطيات الجديدة للمالكين الصرف (الدول الكبرى المتحكمة بالاقتصاد العالمي) وفي ظلّ ظهور قوى إقليميَّة جديدة تتمثل في تركيا التي تشعر بأنها تمَّ سلبُ حقها في اتفاقيَّة لوزان وتطالب بإرثها العثماني وإيران التي كانت متلقياً صامتاً في الصفقة التاريخيَّة السابقه قبل ١٠٠ عامٍ وتحاول أنْ تكون فاعلاً أساسياً في أي صفقة تاريخيَّة جديدة، وكذلك صعود قوة اقتصاديَّة هائلة ومخيفة تريد أنْ تستحوذ على النفوذ الاقتصادي العالمي بغض النظر عن أي جغرافيا أو تاريخ يرسمه الآخرون، فالمارد الصيني له القدرة على تجاوز محددات الآخرين، فإنَّ من الواضح والجلي أنَّ معالم جديدة ستظهر سواء سياسيَّة أو جغرافيَّة في المنطقة ثابتها الوحيد التوافق الغربي على وجود الكيان الإسرائيلي والحفاظ على أمنه، أما باقي المتغيرات فتتمحور حول هذا الثابت أو بمقدار المنافع الاقتصاديَّة المتحققة للدول الكبرى.

وفي خضم هذه التغيرات الخطيرة يجب أنْ ننظرَ بمراجعة بسيطة للفترات الزمنيَّة للأنظمة السياسيَّة التي أدارت العراق منذ تشكيل الدولة العراقيَّة الجديدة بموجب اتفاقيَّة (سايكس بيكو) ومعاهدة (فرساي) وكالآتي:

1 - النظام الملكي الفيصلي عام ١٩٢٠ سقط بعد ٢١ عاماً بثورة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ وقد تخللها انقلاب بكر صدقي الذي غير الحكومة في العام ١٩٣٦، أي بعد ١٦ سنة من انبثاق الدولة.

2 - النظام الملكي الوصائي جراء الاحتلال الانكليزي الثاني عام ١٩٤٢ والذي سقط بعد ١٦ سنة في العام ١٩٥٨.

3 - النظام الجمهوري القاسمي ١٩٥٨ تمَّ إسقاطه بعد ٥ سنوات.

4 - النظام الجمهوري العارفي ١٩٦٣ تمَّ إسقاطه بعد ٥ سنوات أيضاً. 

5 - النظام الجمهوري البعثي ١٩٦٨ تمَّ إسقاطه بعد ١١ سنة بانقلاب صدام على البكر.

6 - النظام الصدامي منذ العام ١٩٧٩ كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط بعد ١٢ سنة خلال الانتفاضة الشعبانيَّة في العام ١٩٩١، لكنَّه استمرَّ جراء اتفاقٍ خارجي بسبب عدم تنظيم المنتفضين وعدم قدرتهم على بلورة قيادة قادرة على التفاهم مع المتطلبات الدوليَّة، إلى أنْ تمَّ إسقاطه بعد ١٣ سنة أخرى باحتلالٍ خارجي. ومن هنا ينبغي الانتباه إلى أنَّ أعتى وأقسى نظامٍ مرَّ على تاريخ العراق بكل ظلمه وجبروته لم يستمر لأكثر من ٢٤ سنة فقط.

7 - النظام البريمري المحتل عام ٢٠٠٣، اضطرّ إلى إنهاء نفسه عام ٢٠٠٤.

8 - النظام الجمهوري الديمقراطي عام ٢٠٠٤ - ٢٠٠٥ والتغييرات الحكوميَّة كل ٤ سنوات منذ ٢٠٠٦، تعرض إلى هزة قويَّة كان ممكن أنْ تؤدي إلى سقوطه بعد ٨ سنوات في العام ٢٠١٤ لولا تدخل المرجعيَّة والتفاعل الشعبي لقتال عصابات داعش ثم تعرض إلى هزة أخرى بعد ٥ سنوات أخرى عام ٢٠١٩ في أحداث تشرين أدت إلى تغييرٍ مؤقتٍ في تفكير هذا النظام سرعان ما تناساها في ظل نشوة الحكم والمغانم، لكنْ بالمجمل فإنَّ النظام السياسي الحالي ما زال صامداً لمدة ٢١ سنة وهي مدة طويلة نسبياً وضمن المعدل الأقوى لفترات الأنظمة الحاكمة في العراق منذ تأسيس الدولة العراقيَّة.

ولكي أكون صريحاً وواضحاً وممَّا سبق في أعلاه ومن خلال التجربة الخاصة، فإنَّ سنن التاريخ وطبيعة الجغرافيا السياسيَّة للمنطقة تنذرُ بقرب وجوب تغيير طريقة الحكم في النظام السياسي الحالي في العراق، وإذا لم تستجب القوى السياسيَّة لهذه المتغيرات فقد تحصل تغيرات لاتتفق مع رؤية الطبقة السياسية الحالية، لأنَّ مخرجات العناد السياسي المبني على مصالح خاصة أو فوائد فئويَّة أو حزبيَّة ضيقة ستكون سلبيَّة على مجمل المجتمع وتغرق السفينة بمن فيها وللأسف سيكون الشعب أول من يدفع ثمن عدم الاستقرار، فنحن لا نتوقع أنْ يكون أي نظامٍ جديدٍ بأفضل حالٍ ممَّن سبقوه في ظل الظروف البيئيَّة والمجتمعيَّة السائدة في البلد والمنطقة.

لقد قلت سابقاً سراً وعلناً، خفتاً وجهراً إنَّ النظام السياسي الذي جاء بعد ٢٠٠٣ أثبت بالتجربة عدم ملاءمته للطبيعة المجتمعيَّة للشعب العراقي وعليه يجب على القائمين (محلياً) عليه التفكير جدياً بتغيير أسلوب الحكم وطريقة إدارة الدولة والتحول إلى المؤسساتيَّة فوراً وقطع الطريق على أي مخططاتٍ شريرة تجاه شعبنا وبلدنا والتعامل مع المتغيرات ببراغماتيَّة حقيقيَّة من منطلق التعريف الواقعي للسياسة بأنها فن الموازنة بين المبادئ والمصالح العامَّة.

وإنْ لم يستطع القائمون على أمور الحكم من القوى السياسيّة على ذلك فيجب دخول أهل الحل والعقد وحكماء الأمة لتغيير النظام السياسي ذاتياً من خلال تعديلات دستوريَّة وتحولاتٍ سلسة لنظام الحكم باتجاه أكثر ملاءمة لمتطلبات الشعب وطبيعته في ظل الأطر القانونيَّة والديمقراطيَّة الحقيقيَّة القائمة على مبدأ الحفاظ على الحقوق وأداء 

الواجبات. أما إذا لم يتم اتخاذ أي إجراءات واقعيَّة والاستمرار بسياسة اللامبالاة والاستخدام السيئ للمقولة التاريخيَّة الحقة (للبيت ربٌ يحميه) والتمسك بعدم التجرد من الأنا الشخصيَّة والفئويَّة فهذا سيندرج تحت مسمى الغباء السياسي مع احترامي للجميع وسنواجه متغيراتٍ مفاجئة لا يمكن التكهن بشكلها سواء تكون اقتصاديَّة أو أمنيَّة أو سياسيَّة خارجيَّة، قد تأخذ شكل عاصفة دولاريَّة أو إعصار إرهابي أو منخفض اقتصادي له تبعاتٌ جماهيريَّة داخليَّة، ستعيد رسم المشهد باستخدام ممثلين ومخرجين جددٍ قد لا يكون للاعبين الأساسيين الآن أي دورٍ فيه وبالتالي سيبقى الشعب العراقي حقلاً للتجارب السياسيَّة التي يحيك مبادئها الآخرون ويستمر دفع الثمن من الأجيال اللاحقة كما دفع جيلنا والذي قبله أثماناً باهظة ليس لنا فيها ذنبٌ سوى أنَّنا ولدنا في هذه البقعة المرسومة من قبل المس بيل قبل أكثر من ١٠٠ عام.

فاتعظوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. 


* رئيس مركز حلول للدراسات الاستراتيجيَّة