قصة {حي بن يقظان}.. ابن طفيل ودوره في بناء أخلاقيَّات البيئة

ثقافة 2024/12/19
...

 محمد محمود النعيمي

مفتتح الإشكال: إنَّ أكثر التوصيفات دلالة على هذا القرن أنّه قرن الأزمات الأخلاقية، ويأخذ هذا التوصيف حقيقته مما يشهده العالم اليوم من هيمنة القيم المادية، على القيم الروحيّة والأخلاقيّة، مما أدى إلى تفاقم مشكلات اجتماعية وثقافية عميقة تعدت بدورها إلى الطبيعة وشكلت في منتهى الأمر جملة من الأزمات البيئيّة التي سيكون لها تداعيات عميقة على مستوى الأمن الغذائي. وعليه سعى فلاسفة الغرب حديثاً إلى وضع تصورات ومنطلقات كلية للخروج من هذه الأزمة، ولكن ما يميز الفلسفة الإسلامية أنه مارس هذا الطرح منذ القدم، ووضع أمام ناظريه مخاوف العبث، والإفراط بالمقدرات الطبيعة التي تتوقف عليها حياة الكائنات بأسرها.
ومن بين هؤلاء الفلاسفة الذين كان لهم دور فعال في هذا المجال هو الفيلسوف ابن طفيل (506- 581 هـ) الذي تميزت رؤيته عن غيره بأنه حاول التوفيق بين متطلبات الحياة الإنسانية من جهة، والحفاظ على البيئة من جهة أخرى، من خلال عمله الفلسفي "حي بن يقظان" والذي سلّط فيه الضوء على ضرورة العيش بتوازن مع البيئة، مبيناً أنّ انسجام الإنسان مع الطبيعة يأتي عبر فهمها أولاً، ومن ثم التكيف معها ثانياً.
ويشير إلى مبدأين يمكن اعتبارهما كمُفتتح أخلاقي لمعالجة قضايا البيئة المعاصرة من داخل حقل الدراسات الفلسفيّة الإسلامية، والتي يمكنُ تطبيقها اليوم كمنظورٍ لإعادة توجيه تعاملنا مع البيئة من منظور أخلاقي، وهما كل من: الدعوة وزيادة الحث على الاندماج في الطبيعة من خلال التأمل والنظر وإدراك القواسم المشتركة فيما بينها، ووظيفتها في الوجود. أما الآخر فهو متعلق بالممارسة الفعلية الإنسانية والحد من فاعليتها ضمن إطار أخلاقي توجيهي للمحافظة على الموارد الحيوية للطبيعة لاستدامة الشكل والنوع. 
المبدأ الأول
يدعو ابن طفيل إلى الاندماج مع الطبيعة، والتكامل معها، من خلال التكشف، والتقصي وراء الأسباب والمسببات واستحضار الأسئلة التي تدعو إلى التفكر فيما هو مشترك بين تلك الكائنات الطبيعية؛ لذا ركّز ابن طفيل على هذه الجزئيّة في مبتدأ الحكاية إذ يتبين أن "حي" كان يرجع إلى أنواع النباتات - بُغية التعرّف والتكشّف- على اختلافها فيرى "كل نوع منها تُشبه بعضها بعضاً في الأغصان والأوراق والأزهار والثمار والأفعال، فيحكم باتحادها بحسب ما يراه من اتفاق فعلها في أنها تتغذى وتنمو، وكذلك بفضل الحس والإدراك والتحرّك مثل تحول وجوه الأزهار إلى جهة الشمس وتحرّك عروقها إلى الغذاء، وأن أفعال النباتات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد في ذاتها، أما عن عطائها فهي مأوى للكائنات الحيّة، ويقع عليها تغذية الحيوان، والإنسان ايضاً"، ومن خلال هذه الملاحظات التي تولدت لديه عن طريق النظر، والمعاينة أدرك "حي" حينها أنَّ الإنسان جزء ضمن عالم متكامل الأركان كلٌّ له وظيفته، وخصائصه فضلاً عن المشتركات الخاصة بكل نوع، والتي تتعدى أيضاً إلى الكائنات الأخرى.

المبدأ الثاني
بعد ما توصّل إليه "حي" من النتائج من خلال الملاحظة لم يوظف تلك المعرفة لمآرب شخصية تحث على التسلّط والاستغلال على حساب الطبيعة، إذ كان يعد الطبيعة في جوهرها لا تقتصر فقط على كونها مجرد موارد مادية بحتة، بل هي ميدان للتأمل، والمعرفة، والتغذية، أي التي يكتسب منها الإنسان بعض تصوراته حول الوجود، وكذلك يستمد منها حاجته الغذائية، وهو ما يعزز بطبيعة الحال الشعور بالمسؤولية تجاه البيئة، والمحافظة عليها، والعيش بتوازن بين حاجاته وموارده، لذا كان حي يجسّد هذه الفكرة عبر استخدامه لموارد البيئة من دون إفراط أو إسراف، وهو ما يعكس موقفاً يدعو إلى الاعتدال واحترام البيئة، "فنظر في أجناس ما به يتغذى، وألزم نفسه بأن الأخذ منها للاغتذاء يجب به شرط التحفّظ على البذرة بأن لا يأكله، ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح لإنبات تلك النبتة مرة أخرى، وألا يستأصل أصولها ولا يفني بذرها بعد أنباته، كما أنه إذا رأى ذا حاجة، أو عاهة، أو مضرة، أو ذا عائق من النبات وهو يقدر على إزالتها عنها إلا وقد أزالها، فمتى ما وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش يكاد يفسده أزال عنه ذلك الحجاب، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي، وتعهّد بالسقي ما أمكنه".
طوّر ابن طفيل فهماً عميقاً للطبيعة، يمكن أن نطلق عليه "المفهوم الحيوي الطبيعي" ودلالة هذا المفهوم أن الطبيعة تمتلك نوعاً من الطاقة الحيوية التي تجعلها تتفاعل وتتكيف مع محيطها الخارجي، عن طريق النمو والتكاثر، كما نجد أنه يركز ايضاً على ما يعيق أو ما يفقدُ من قيمة هذه الطاقة عن طريق تدخل الإنسان في المنظومة التي تسير عليها الطبيعة في المحافظة على ديمومتها، واستمرارها؛ لذا نجد أنّه طرح مبدأين يعالج فيهما إشكالية هذا التدخل، أولهما هو أن يندمج الإنسان مع الطبيعة حتى يدرك قيمة الطبيعة من خلال عطائها وخصائصها الحيوية. أما الثاني فيختص بفاعلية الإنسان ودوره في المحافظة على استمرار القيمة الحيوية للطبيعة عن طريق جملة من الأفعال، والتصرفات والذي يمكن أن نطلق عليه الأفعال الأخلاقية البيئية وهي كل من: المحافظة على البذرة التي يكمنُ فيها النوع، وعدم استئصال الأصول عن طريق الإقلاع، وإزالة العاهات والعوائق التي تحيل بين النمو والعطاء.