شاءت الصدف اني كنت اقرأ في الاسبوع الماضي في آن واحد في كتابين هما: "الفسلفة الوضعية" Positive Philidophy للفيلسوف الفرنسي اوغست كونت، وكتاب "جواهر الكلام" لشيخ الفقهاء وامام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي.
ولفتت نظري هذه القراءة المزدوجة الى ان الرجلين عاشا في عصر واحد، وإنْ في مكانين مختلفين.
فصاحب "جواهر الكلام"، وهو موسوعة فقهية تقع في 43 مجلدا في طبعته الحديثة، ولد في عام 1778 ومات رحمه الله في عام 1850. وقد شرع في تأليف كتابه وهو في ال 25 من عمره. وانتهى منه كما ذكر في اخر صفحة فيه في شهر رمضان سنة 1254 اي عام 1838، اي قبل 181 سنة.
فصول الكتاب مرتبة على ابواب الفقه التقليدية ابتداء من باب الطهارة وانتهاء بباب الديات.
اما صاحب "الفلسفة الوضعية" فقد ولد في عام 1798 ومات رحمه الله في عام 1857. ويقع كتابه الضخم في 6 اجزاء وقد باشر في تاليفه عام 1830 وانتهى منه في عام 1842. والكتاب، وهو ايضا موسوعة علمية، مرتب في طبعة نيويورك الانجليزية لعام 1858 على ستة ابواب هي: الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجي، واخيرا الفيزياء الاجتماعية او علم الاجتماع. ولهذا يقال ان كونت هو مؤسس علم الاجتماع (في الغرب على الاقل، عربيا يقال ان ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع) وواضع مصطلحه sociology.
ولفت نظري ان الرجلين عاشا في ظروف متشابهة ايضا.فقد شهد عصر صاحب "الجواهر" نهضة تجديدية في الفقه والاصول كان من نجومها الوحيد البهبهاني والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء والشيخ مرتضى الانصاري وغيرهم. "فازدهر عصر شيخنا صاحب الجواهر بالعلم والعلماء والطلاب فازدحمت النجف يومئذ برواد العلم من كل حدب وصوب... وبلغت القمة في رواج العلم فيها" بالتزامن مع "الاستقرار السياسي وفترة السلم التي سادت في البلاد الاسلامية يومئذ"، كما يقول كاتب مقدمة الكتاب.
وفي اوروبا وبخاصة فرنسا كان عصر التنوير والنهضة والعلوم يسابق الزمن على ايدي افذاذ من امثال روسو وفولتير ومونتسيكيو وغيرهم.
ليس غرضي هنا ان اقارن بين الكتابين، لان موضوعي الكتابين مختلفان، بل اقصد ان ابين الفرق بينهما، وبتعبير ادق الفرق في اهتمامات الرجلين. والفرق الجوهري هو ان كتاب "الفلسفة الوضعية" كان منشغلا بالواقع الخارجي، وبالاخص المجتمع وكيفية بنائه على اسس علمية حديثة. اما كتاب "الجواهر" فقد كان منشغلا بالنصوص الدينية (الايات القرانية والاحاديث النبوية) والتراث الديني الذي شيد فوقهما على مدى الف عام او يزيد سبقت تاليف الكتاب. وهذه هي قضية كل كتب الفقه والاصول وما يتعلق بهما، اذْ نجدها منشغلة بحل ما اسميه "مشكلات النص الديني" في مسائل تشكل عناوين فصول كتب علم الاصول وابواب الفقه. ومن هذه "المشكلات"، على سبيل المثال لا الحصر، حجية الخبر الواحد، والناسخ والمنسوخ، والتعارض بين الادلة
وغيرها.
في فضاء ثقافي اسلامي لا مهرب من الانشغال بالنص الديني، لان المسلمين "امة كتاب"، كما يصفهم محمد اركون. لكن الانغلاق على النص الديني يفصل المثقف الاسلامي (والفقهاء مثقفون) عن واقعه المعاش، وبالتالي ينفصل النص الديني عن الواقع المعاش، تأثرا وتأثيرا به في علاقة جدلية مطلوبة من اجل تحريك النص الديني ومنحه الفاعلية التي تجعله
حيا.
وعليه، فاذا كانت ادوات المثقف الاسلامي التقليدية المعروفة مثل علوم القران والحديث واصول الفقه وغيرها ضرورة علمية بالنسبة له، فان الانفتاح على الواقع المعاش، والتفكير بمشكلاته واسئلته واطروحاته وتحدياته ومعطياته، ضرورة اخرى اذا أُريد للمثقف الاسلامي ومعه النص الديني ان يواكب الحياة في متغيراتها وتطورها.
ادرك مفكرون وفقهاء اسلاميون لاحقون، امثال جمال الدين الافغاني ومحمد باقر الصدر والسيستاني وغيرهم، هذه الحقيقة فعملوا على تعشيق العلاقة بين النص الديني والواقع المعاش. وحققوا نتائج ايجابية بحدود معينة.
الانغلاق غير منتج، بل ضار جدا.